1 يناير 2021

في وداع حاتم علي..

في وداع حاتم علي..

من عادتي أثناء مشاهدة المُسلسلات العربيّة، أن أضغط زر الفأرة على دقيقة مُتقدّمة من الحلقة، كي أقفز عن المُقدّمة التي فيها الأغنية وأسماء المُمثلين والمُشتغلين على العمل. ومن حظّي أنّي كنت كثيراً ما أنجح في اختيار الهدف بأقل من الدقّة بقليل، فيقع مؤشر الفأرة على الثانية التي تسبق بداية الحلقة. بهذه الطريقة، كنت غالباً ما ألمح سريعاً اسم شخص لا أعرفه، مكتوباً بالخطّ العريض في وسط الشاشة: حاتم علي. هكذا، تعرّفت عيناي عليه قبل عقلي، ونُقش في وعي طفل صغير اسمُ مُخرجٍ قدير. 

غادرنا المخرج حاتم علي قبل أيام بعد أن قضى سنوات عمره في الإخراج وكتابة الدراما والإنتاج والتمثيل، كما كتب المسرحيّة والقصّة القصيرة، وحصد العديد من الجوائز على أعماله التلفزيونية. هُجّر علي من الجولان بعد احتلاله وهو في عمرٍ صغير، وعاش طفولته وشبابه في مخيّم اليرموك. رسّخت هذه التجربة في ذهنه بعضاً من صور النزوح والمُعاناة الإنسانية. أخرج لنا حاتم علي 25 عملاً تلفزيونيّاً، أهمّها مسلسلات: الزير سالم (2000)، صلاح الدين الأيوبي (2001)، صقر قريش (2002)، ربيع قرطبة (2003) التغريبة الفلسطينية (2004)، ملوك الطوائف (2005)، عمر (2012)، قلم حمرة (2014). 

عاش حاتم علي خلف الكاميرا أكثر مما عاش أمامها. نعرفه من خلال الشخصيات التي خلقها والمشاهد التي طبعها في عقولنا أكثر من المعلومات التي نملكها عنه. ولكنّ ذلك لا يجعله "مخرج كاميرا"، بتعبير شريكه في كثير من الأعمال المؤرّخ وكاتب الدراما وليد سيف. إذ يوظّف علي التقنيات في سبيل خدمة المشهد، ولا يجعلها هي التي تحكم العمل، وبذلك يثبت براعته في الإخراج. كما أنّه لا يقدّم "بهلوانيات مجانيّة" بتعبير الممثّل تيّم حسن، ولا يُقحم شيئاً بغية مجرد الإقحام، بل يكون عمله استرسالاً لماء النص والمشهد. وقد استخدم حاتم علي تقنيّات في التصوير والإخراج على درجة معقولة من الواقعية، تحديداً في التعامل مع مشاهد المعارك التي تحتاج إلى تقنيّات جيّدة لجعلها أقرب إلى قلب المشاهد، وهو ما تحقّق بشكلٍ مُلفت في مسلسل "عمر". 

أما عن شراكته مع كاتب السيناريو المؤرخ وليد سيف، فربّما كانت الأكثر جماليّة وإفادة. كان لقاؤهما الأوّل في مسلسل "صلاح الدين الأيوبي"، الذي تلقّفه حاتم علي من وليد سيف، بعد أن رفض الأخير عرض إحدى شركات الإنتاج التي طلبت منه أن يكتب مُسلسلاً عن شخصيّة صلاح الدين دون أن يكون فيه حضور للمعارك، ولا حتّى لمعركة حطين. في ذلك الوقت الذي كانت تخاف فيه كثير من شركات الإنتاج من إخراج عملٍ يُمكن أن تُفسّر مدلولاته السياسيّة صوب الحكومات العربيّة، وجد حاتم علي ووليد سيف بعضهما على أرضيةٍ فكريّةٍ وفنيّةٍ مُشتركة إلى حدود كبيرة، ليشقّا طريقاً استمرّ 12 عاماً.

أنتج الثنائي عدّة أعمال تاريخيّة دراميّة، وهي: صلاح الدين الأيوبي، وثلاثيّة الأندلس (صقر قريش، ربيع قرطبة، ملوك الطوائف)، والتغريبة الفلسطينيّة، وعمر. وبدا للمُشاهدين التناغم الحاصل بينهما حتّى أصبحت الثنائية بينهما موضوعاً للتداول والنقاش. يقول حاتم علي عنها: "لا يمكنك أن تفصل ما بين الفكرة وطريقة التعبير عنها، ما بين المضمون والشكل، لذلك تبدو الحدود مُلتبسة ما بين النص والصورة، بحيث لا يمكنك أن تفصل بينهما أو تستطيع تحديد مرجعية لهذة الكتابة، سوى مرجعية الثنائية نفسها". 

لا يُمكن أن نُزيل الحدود بين علي وسيف، فنُرجع الفضل إلى أحدهما دون الآخر، فنحن لا نعرف شكل العمل الذي سيخرج من كتابة سيف لو لم يكن من إنتاج علي، والعكس. وبقدر براعة سيف في النصّ، فإنّ عليّاً أتقن إخراج الشخصيات لدرجة أدّت بنا إلى تقمص الشخوص، والهجس بهواجسهم وسؤال أسئلتهم. من منّا لم يحب أن يكون هو نفسه محمد بن أبي عامر الذي قال لصبح كلاماً عن الحبّ دونه كلُّ الكلام؟ ومن منّا لم يصفّر كما كان صفير بدر خلال رحلة المطاردة مع عبد الرحمن الداخل؟ ومن منّا لم يشتهي أن تكون فيه أنفة المُعتمد التي لاحقته حتّى مماته منفيّاً؟ ومن منّا لم يجعل نفسه الزير سالم وامرؤ القيس وأبو صالح وحسن؟ حتّى في الأعمال غير التاريخية والتي لم يُشارك فيها مع وليد سيف، كنّا بنفس الدرجة من الانشداد والسحر لشخصيّات "قلم حمرة". 

تعرّضنا في أعماله إلى نقاشاتٍ وأسئلة كثيرة هي ابنة الواقع. كان يجعلها أمامنا بعد أن نتعلّق بالشخصيّات التي تتمثّلها، ويقول لنا: هاكم، جرّبوا أن تحلّوا المعضلة. دروسٌ في الحبّ علّمانا ايّاها ابن زيدون وولادة بنت المستكفي، ودرسٌ في الإرادة وإبصار الحلم وشحذ العين بالمُستقبل، وصراعٌ محتدم بين أبي عامر وابن عمه حول إن كانت "الغاية تُبرّر الوسيلة" فعلاً، وأنفة وكبرياء القائد أبو صالح الذي لم يعد له من مكان في المشهد بعد انتهاء الثورة. 

لم تكن حقيقة الأمر في أيّ من تلك المسلسلات ومواقفها ورديّة. فالشخصيّات مليئة بالتناقضات والتجاذبات اليوميّة التي هي جزء أصيلٌ في الحياة. فننشد إلى شخصيّة في بادئ الأمر، ثمّ نلومها في نهايته بعد أن تتضح مآلات الأمور، وتأخذ المكانة العالية من الشخص مثلما يأخذ الشخص منها. فهو إذ يعرضك أمام التاريخ، يعرض لك نفسك وعالمك المعاصر؛ عن أسئلته ونقاشاته: ما هو دور المثقف؟ ما هو الواقعي وما هو الوهمي؟ كيف لأبناء الصراع الواحد أن يختلفا على الحياة وشؤونها بين ابن المدينة وابن القرية؟ ما معنى أن "لا تصالح" وتثأر لقاتلي أخيك؟ وغيرها فائضٌ من الأسئلة، التي صُوِّرت في قالب يسهل تناوله منا جميعاً؛ كبيراً وصغيراً، نخبويّاً وشعبيّاً.

كُنتُ كلّما أريد أن أعرف أكثر أو أعمق عن تاريخ حضارتنا العربيّة والإسلاميّة، أدخل على الإنترنت فأنتقي من مسلسلات حاتم علي. وكنت إن أردت سماع لغة عربيّة فصيحة وجميلة، أو أن أرى ممكنات العمل الفنيّ والدراميّ إلى أين تصل، أدخل فأشاهد شيئاً من غزير إنتاجه. وهذا في زمن، تكثر فيه الأعمال الدراميّة التي تنخفض قيمتها الفكرية والفنية. 

في مُقابلات عديدة، يُكرر حاتم علي جملة "بطبيعة الحال" حين يهمّ بالإجابة على سؤال ما. تبدو أنّها ممرّ عبوره إلى الأفكار التي يُريد أن يُلقي بها خارجاً، فتُهيء المُستمع نفسياً إلى أنّ المُقبل على سماعه ما هو إلا امتدادٌ لماضي قد سبق وجرى، أو لسنّة حياة خارجة عن إرادة المُخرج، وهي متداولة بين الناس منذ القدم. كأن افتتاحيّته هذه أراد لها أن تكون مكنسة لا لكنس الغبار، وإنما لكنس البريق عن إجابته للسؤال، فمضمون الإجابة هو "بطبيعة الحال" كما أي شيء آخر؛ تفعله الناس وتقوله على الدوام. 

إذاً، هل من جديد أو جوابٍ فريد بالنسبة لرحيله؟ لا، بطبيعة الحال. فمجريات الأمور وأحوال الدنيا كذلك؛ تكون الناس ثمّ ترحل، وحاتم علي لن يُعمّر إلى الأبد حتّى يُكمل أجوبته على أسئلتنا: كيف أنشأنا سلّماً للصعود إلى الجنّة في العصور السابقة؟ وكيف نزلنا على سلّم المُنحدر إلى الهاوية بعدها؟ أراه أمامي يقول لنا على طريقة شخصيّة زياد الساخرة في مسلسله "ربيع قرطبة": "ما الحياة دون جديدٍ يُدهشك؟". 

رحل المُخرج الكبير، وتركنا وراءه نتساءل: من يحمل عبء الذاكرة بأدواتٍ عصريّةٍ تصل إلى كلّ بيت عربيّ؟ ومن يصوّر لنا ببراعة سير من لا سير لهم على ألسنة الحكومات؟ من بإمكانه أن يحوّل لنا أولئك الذين قسموا جسومهم في جسوم الناس إلى شخصيات دراميّة حيّة ومؤثرة؟ رحل حاتم علي ولم يُكمل مشروعه الإخراجي. 

قد أنفذت نصف الوعد؛ ثلاثيّة الأندلس، وبقيت الرباعيّة (سقوط غرناطة)؛ أقول له. ينظر إليّ ساخراً: هذا ما سوف أفوّته عليكم. ويرحل بهدوء.