13 يناير 2020

غزة

أرض التوت الحزين

أرض التوت الحزين

نحتفي بعلب التوت التي تحمل علامة "إنتاج غزّة - فلسطين" ونشارك صورتها بفخرٍ في وسائل التواصل الاجتماعيّ. أما الصحافة، فتُصَوِّرُ موسم التوت الأرضيّ (الفراولة) في القطاع المحاصر كقصّة نجاحٍ يُمكن عرضها في TEDx. بل ذهب عنوان قناة الجزيرة، مثلاً، إلى استعمال تسمية "الذهب الأحمر" لوصف الفاكهة التي سمحت "إسرائيل" بتسويقها خارج القطاع.

يمرّ الموسم الحاليّ "على خير" ويصل التوت من غزّة إلى الأسواق الفلسطينيّة في الضّفة الغربيّة للعام السادس على التوالي. كما سمحت "إسرائيل" هذا العام بتصديره في الأسواق الإسرائيليّة أيضاً، أي داخل أراضي الـ1948، وهو ما لم يحدث منذ عام 2006. وكذلك سمحت بتصدير التوت إلى بريطانيا لأول مرة، وإلى دول الخليج العربيّ كالإمارات والسعوديّة وقطر، وإلى روسيا أيضاً. وقد بيع فعلاً حتّى بداية شهر يناير/كانون الثاني الجاري ما يعادل ألفي طنّ من  أصل خمسة آلاف طن يُتوقّع قطفهم خلال الموسم.1يجري التصدير من "معبر إيرز" إذا كان للضفة أو الداخل، ومن "معبر كرم أبو سالم" إذا كان إلى الدول الأوروبيّة أو العربيّة، وذلك من خلال شركات نقل إسرائيليّة.

منذ أن سمحت "إسرائيل" باستئناف تصدير عدّة محاصيل زراعيّة ومنها التوت عام 2014، بدأ المزارعون الفلسطينيّون في غزة بتوسيعٍ تدريجيّ لمساحات الأراضي المخصصة لهذه الفاكهة.2بدأت "إسرائيل" بالسماح بتسويق المنتجات الزراعيّة، ومن ضمنها التوت الأرضي، من قطاع غزّة إلى الضّفة الغربية في أكتوبر/تشرين الأول 2014، وذلك لأول مرة منذ عام 2007). ففي حين زُرعت ما مساحته 1200 دونم بتوت الأرض عام 2018، توّسعت هذه المساحة في الموسم الحالي، أي عام 2019، إلى 2000 دونمٍ، أي بزيادة 800 دونم خلال عامٍ واحدٍ.  بحسب إبراهيم غبن، مدير جمعيّة مزارعي التوت الأرضيّ في بيت لاهيا شمالي القطاع، يُكلّف الدونم الواحد من 8 آلاف إلى 10 آلاف شيكل، ويُنـتِج حتّى 2 طن من التوت، ويُباع الطن بثمانية آلاف شيكل، أي أنّه يدر ربحاً يتراوح بين أربعة إلى ستة آلاف شيكل للدونم الواحد. يترافق هذا التوّسع في زراعة التوت مع ازديادٍ في عدد العمّال في تلك الحقول، فارتفع عددهم من 3 آلاف مزارعٍ عام 2018 إلى 5 آلاف مزارعٍ نهاية العام المنصرم.

 

تحتفي حكومة غزّة بهذا الإنجاز الذي يُساهم "إيجابيّاً" في الوضع الاقتصاديّ للفلسطينيّين في القطاع. من جهتها تتفاخر "إسرائيل" حين تسمح بالتصدير، بادعاء أنّها تساعد في تحسين الوضع الإنسانيّ في غزّة، والذي تُصوّره وكأنّه ناتجٌ عن إدارة "حماس" للقطاع، وليس ناتجاً عن حصار تُمارسه هي منذ 13 عاماً، تُحكم فيه قبضتها على المعابر النافذة من القطاع وإليه، وتتحكمُ بكافة مجالات الحياة، ومن ضمنها تصدير المنتجات الزراعيّة: كمّيتها، أنواعها، تعليبها، ووجهتها.3بدأ المنع التام لتصدير البضائع من قطاع غزّة مع بدء الحصار عام 2007. قبل الحصار، وصل المعدّل الشهري لشاحنات البضائع إلى 1064 شاحنة، وتوجّه 85% منها لأسواق الضفّة الغربيّة و"إسرائيل". في عام 2005، وقّعت السلطة الفلسطينيّة مع "إسرائيل" على "اتفاق المعابر"، وخرجت بموجبه 400 شاحنة من القطاع يومياً، أي ما يقارب الـ 10,000 شاحنة في الشهر، توجه معظمها إلى "إسرائيل"، وربعها إلى الضفة الغربيّة، والباقي إلى الدول الأوروبيّة. جنى القطاع  من الزراعة في أيامها ما يقارب الخمسة ملايين دولار، وتقلّص الرقم إلى ما يقارب الربع مليون دولار بعد انتهاء "شهر العسل"، وصولاً إلى الإغلاق التام. عام 2014 سمحت "إسرائيل" بالتصدير لأوّل مرّة منذ فرض الحصار، وخرجت 18 شاحنة شهريّاً فقط من القطاع. ثم عام 2015 خرجت حوالي 113 شاحنة شهرياً، ثم عام 2016 خرج ما معدّله 178 شاحنة شهرياً.

إثر هذا النجاح، يتجه أصحاب الأراضي والمزارعون إلى الاستثمار في هذا القطاع، ويشترون المعدّات الزراعيّة استعداداً للموسم. وهنا تتجلى أكثر سياسات الحصار، فعدا عن كون "إسرائيل" هي التي تسمح بالتصدير أو التسويق، يتم استيراد ما تحتاجه العملية الزراعيّة من معدّات منها كذلك، وبمبالغ كبيرة. فقد استوردت غزّة من "إسرائيل" عام 2018 معدّات زراعيّة بمبلغ يقدّر بـ 11.1 مليون شيكل. ولا يتوقّف الارتهان لـ"إسرائيل" هنا، إنما يفرض الاحتلال شروطَ "جودةٍ" وتكاليفَ تعليب وشحن تعجيزيّة. 

موسم القلق

مع كلّ موسمٍ، يصبح القرار الإسرائيليّ بشأن السماح بالتصدير أو عدمه خبراً يراقبه الناسُ بقلقٍ آملين ألّا تتغير سياسات الحصار الإسرائيليّ مجدداً. تتلاعب "إسرائيل" بالمزارعين بشكلٍ دائمٍ، وبات من المألوف أن تسمح ثمّ تمنع: تراجعت عام 2012 عن اتفاق كان يقضي بتصدير التوت الأرضي إلى الأسواق الأوروبيّة؛ ومنعت عام 2015 تسويقه إلى أسواق الضفة الغربيّة أثناء عمليّة الشحن، بعد أن وجدت توتاً غزّياً "مهرّباً" من الضّفة إلى الأسواق الإسرائيليّة في الداخل المحتل؛ ومنعت عام 2016 تسويق التوت في أشهر الذروة من الموسم، ثم سمحت بتسويقه بعد تلك الأشهر. كما اعتقلت "إسرائيل" عام 2017 شبّاناً من القدس، بتهمة إدخال التوت الغزيّ الموجود في سوق الضفة إلى السوق الإسرائيلي. 

إنّ كمّيات التوت المزروعة في القطاع كبيرة، وهي تُنتج للتسويق والتصدير، وبالتالي فإنّ منع التصدير أو إغلاق "المعابر" لسبب ما، كالدخول مع "إسرائيل" في حرب أو مواجهة، سيؤدّي إلى تكدّس هذه الكميّات ثمّ تلفها. يشير إبراهيم غبن إلى أنّه لو جرى إغلاق المعابر فإنّ أسواق غزّة ستكون وجهة التوت، ولكن هذه الأسواق "لا تستوعب حتّى إنتاج 200 دونم من التوت، فهي ليست فاكهة أساسيّة بالنسبة للناس". 

ويضيف غبن أنّه في حال جرى منع تسويق التوت الأرضيّ فجأة، فإنّ ذلك سيؤدي إلى إلحاق خسائر ماديّة بالمزارعين، تتراوح بين 5 آلاف إلى 8 آلاف شيكل للدونم الواحد. ليس ذلك فحسب، إنّما يطال الضّرر فاعليّة الأرض وإنتاجيّتها، فالمزارع لن يتمكن، إن تمّ المنع، من زراعة الأرض بمحصول آخر طوال الموسم، الذي يمتدّ سنةً كاملةً تقريباً. كما أنّه لن يغامر بقلع شتلات التوت الأرضيّ المُكلِفَة، لأنّ أمله سيظلّ مُعلّقاً باحتمالية فكّ المنع في نفس الموسم. 

علاوةً على هذه التحديات، فإنّ التوت الغزيّ لا يستفرد بأسواق الضفة بل يُنافسه فيها التوت الإسرائيلي، الذي ما إن يدخل إلى السوق حتّى يوقع خسائر جديّة بالمزارع الغزّي. يقول غبن: "طالبنا بمنع دخول التوت الإسرائيليّ إلى أسواقنا، لأنّ ذلك من شأنه أن يضر بمزارعينا ويسبب لهم الخسائر. تمنع "إسرائيل" تسويق توتنا في سوقها، فلماذا أسمح لها بتسويق توتها في أسواقنا؟"

عملياً، تتجلى في زراعة التوت أعلى درجات التعّلّق الاقتصاديّ الفلسطينيّ بالقرار السياسيّ الإسرائيليّ، وهو ما يجعلها زراعة قابلة للاستخدام كورقة ضغطٍ على حركة "حماس" وعلى قطاع غزّة عموماً. وقد تندرج "التسهيلات" في تصدير التوت ضمن الخطوات الإسرائيليّة للوصول إلى تفاهمات تُجهِض مسيرات العودة، ومنها إدخال إطارات السيّارات، وإعادة مجال الصيد إلى 15 ميلاً بحريّاً. هكذا، ورغم الجوانب الإيجابيّة الكثيرة في تصدير التوت، إلا أنّه أيضاً أداة ابتزازٍ تستخدمها "إسرائيل" ضدّ سكّان القطاع: انتعاش الاقتصاد الفلسطينيّ مقابل انتعاش أمن "إسرائيل".

من يُنجينا من مشنقةٍ اسمها "المعبر"؟

ما الذي عليّ أن أزرعه؟ إنّه سؤال المُزارع في قطاع غزّة، والذي ينتظر تصريحاً تسمح "إسرائيل" فيه بتصدير أو تسويق محصول معيّن كي يجيب على السؤال المُرتبط بلقمة عيشه. فالأرض يتحدّد محصولها للمزارع، حسب المحصول الذي توافق "إسرائيل" على تسويقه بقيود أقل و"تسهيلات" أكثر لهذا العام. يشعر المزارعون بالخوف مع بداية تجهيز الأراضي الزراعيّة لإنتاج محاصيل للتصدير، بسبب هذه الذاكرة غير الطيّبة بالعلاقة مع الوعود الإسرائيليّة؛ هل ستسمح "إسرائيل" حقّاً بالتصدير أم ستنكث بوعدها؟ فتارة تمنع محصولاً وتوافق على آخر، وتارةً تزيد من النسبة وأخرى تقلّلها، وتارةً تسمح بالتصدير لمكان وتمنع التصدير لمكان آخر، وتقيّد تصدير منتج وتسهّل تصدير منتج آخر. 

أما خطوات وزارة الزراعة في قطاع غزّة، فإنّها لا تتنافى مع هذا المنطق المرتهن إلى القرار الإسرائيليّ. لا تعمل الوزارة على التنبيه من السياسات الإسرائيليّة المتحكّمة بالمزروعات، وطرق الانفكاك من هذه السياسات التي ما تفتأ أن تدمّر الاقتصاد الغزيّ، بل تدعو في استراتيجيّاتها ضمن "مهام الإدارة العامة للتسويق" إلى الانتقال من "تسويق ما يُـنـتَـج إلى إنتاج ما يمكن تسويقه" – أيّ التركيز على إمكانيّات التصدير عبر "إسرائيل"، بدلاً من تأمين اكتفاء ذاتيّ للمجتمع المحاصر، ومحاولة الانفكاك من مشنقة اسمها "المعبر".

لا يقتصر الانفكاك عن "إسرائيل" على التوقف عن الاستيراد منها، بل هو مرتبطٌ أيضاً بعدم اعتماد اقتصادنا -الهشّ أصلاً- على التصدير الذي لا يحدث إلا بموافقتها، وبالتالي عدم إعطائها امتيازاً للتلاعب بما يجب أن نُـنـتِجَه. ليس من أولويّات الجهة التي من شأنها أن تفكر بعدم ارتباط جيوب الناس أكثر فأكثر بالاحتلال، أن تُعطي فقط نصائح وإرشادات لمشاكل زراعيّة كالسّل، أو تحفيزات تُشبه خطاب التنميّة البشريّة لتطوير القطاع الزراعيّ. بل تحتاج بالدرجة الأولى أن تضع رؤيةً استراتيجيّةً للاكتفاء الذاتيّ، ولتسويقٍ غير مُرْتَهَن، أو -على الأقل- التقليل من هيمنة القرار الإسرائيليّ على شكل أرضنا ومحاصيلها.