4 فبراير 2020

إجابة وحيدة لـ"صفقة القرن": كل فلسطين

إجابة وحيدة لـ"صفقة القرن": كل فلسطين

مثّل إعلانُ "صفقة القرن" الأسبوع الماضي حسماً على مستوى التسميّة للوقائع التي فرضتها "إسرائيل" على الأرض خلال العقدين الأخيرين، وما زالت مستمرةً في فرضها وتثبيتها. "قضايا الحلّ النهائي"، ذلك التعبير الذي طالما ردّده المفاوضون في تصريحاتهم الصحافيّة، تلك القضايا التي تركتها "أوسلو" خلفها؛ القدس واللاجئين والسيادة والأرض والحدود، جرت تصفيتُها بنداً بنداً على أرض الواقع، أمام أعين السّلطة الفلسطينيّة. لم تفعل "صفقة القرن" إذاً شيئاً سوى أنّها أعلنت إقرار تلك القضايا وما فُرِض فيها دون الحاجة إلى مفاوضات مع الفلسطينيّين. 

ستحصل "إسرائيل" وفق "صفقة القرن" على أكثر من 42% من أرض الضفّة الغربيّة، مكان سيادة السّلطة المُفترض. هذا ليس عرضاً على الورق، بل هو واقعٌ معاشٌ في مناطق الأغوار، وفي مناطق "ج" في الضّفة الغربيّة. ففي مناطق الريف الفلسطينيّ ما زال الاستيطان مستمراً بتصاعد، يهدم البيوت، ويُهجّر أهلها، ويلتهم المزيد من الأراضي ويُوسع الاستيطان فوقها، في المقابل، تتصاعد الهجرة من الريف إلى المدينة، في نسبٍ هي من الأعلى في العالم. إذ يعيش في مدن الضّفة اليوم ما يقارب 74% من السّكان، بينما يعيش 16% فقط في الريف. يتجمع الناس في مناطقَ محصورةٍ، ويضطرون للبناء عاموديّاً، أو تدفعهم "إسرائيل" إلى ذلك، ومن ثمّ تُخطط للانسحاب من تلك المناطق، وبذلك تتخلص من عددٍ أكبر من السّكان، فيما يشبه نموذج غزة. وفي هذا كله فإنّ "صفقةَ القرنِ" ليست عرضاً كسابقه من العروض يقبله الفلسطينيون أو يرفضونه، بل هو واقعٌ يزحف ويتمدّدُ على أراضيهم ويقتحم تفاصيل حياتهم.

وفي الأماكن التي تحشرُ فيها "إسرائيل" الفلسطينيّين، فإنّها تخلق شكلاً من العلاقات المبنية على المصالح المباشرة للسكان، دون أن تكون هناك حاجةٌ لأن تمرّ هذه العلاقات عبر جسم السّلطة الفلسطينيّة. من المصانع، مروراً بالغرف التجاريّة، إلى الدور النشط الذي يلعبه منسّق عمليّات الاحتلال في الأراضي المحتلّة عام 1967 في كل منطقة، بتواصله المباشر مع النّاس وابتزازهم بأرزاقهم وحريّة  حركتهم، ومقايضة تطلعاتهم السياسيّة بتحسين ظروفهم المعيشيّة فوق ما تبقى لهم من أرض. هذا هو الواقع الواضح والقاسي الذي جاءت صفقة القرن وحوّلته إلى نصٍّ مسطورٍ. 

اقرأ/ي المزيد: "سيرة مختصرة لسلطة لم تعد لها أيّ حاجة"

أما في القدس، حيث حلم المفاوضون بنصف مدينة يعلنون فيها عاصمةَ "دولتهم"، فقد استمرت "إسرائيل" بالبناء والتمدد؛ بالمستوطنات وبالبنى التحتيّة من شوارع وقطارات، حتى غاب ذلك "الحدّ" الذي يفصل ما يُسمّى "القدس الشرقيّة" عن تلك "الغربيّة". وقد أحاطت "إسرائيل" المدينة المحتلة بجدارٍ فاصلٍ قاطعةً أي تواصل جغرافيّ مباشر مع امتدادها في الضّفة الغربيّة. وفي المسجد الأقصى، الذي تعترف به "صفقة القرن" مكاناً مقدساً لجميع الأديان، لا حاجة لانتظار تحقيق ذلك الاعتراف، فكلّ يومٍ هناك يبدأُ بصور المستوطنين يؤدون الصلوات علناً في ساعات الصّباح فيما يبدو تطبيقاً حرفيّاً لمعاني "التقسيم الزمانيّ". أما النّاس، فها هي "إسرائيل" تصرف على "دمجهم" في مجتمعها منذ 2014 مليارات الشواكل؛ تتسارع عمليات فرض المنهاج الإسرائيليّ، وبناء المدارس،  بل وتوظيف المقدسيين في وظائف حكومية "مرموقة"، مع تزايد في حصولهم على الجنسية الإسرائيلية.

ينسحب هذا الواقع على قضية اللاجئين التي تصاعدت محاولات تصفيتها مؤخراً، وبدا ذلك واضحاً من خلال استهداف الـ"أونروا"، وليس بعيداً عن ذلك تزايد معدلات هجرة اللاجئين من مخيماتهم باتجاه لجوءٍ جديدٍ في أوروبا وأميركا. 

اقرأ/ي المزيد: الـ"أونروا".. كيف يرتبط مصير شعبٍ بوكالة؟".

أبو مازن يبحث عن رزقه: هل تعارض السّلطة صفقة القرن؟

أعلنت السلطةُ الفلسطينيّة معارضةَ هذه الصفقة، واصطفت وراء هذا الموقف مجملُ الفصائل الفلسطينيّة مع تجاهلِ السؤال حول ما تعنيه هذه "المعارضة" وما بعدها. إنّ صفقةَ القرن هي تتويجٌ لمسار السّلطة منذ ولادتها، وهي على وجه الخصوص تتويجٌ لسياسات عباس منذ بدء فترة حكمه. فما الذي يعارضه محمود عباس والسّلطةُ الفلسطينيّة بالضبط؟

ما يعارضه عباس ليس صفقة القرن بل وضعيته داخلها. يعارض عباس تفاصيل فنيةً في الصفقة لا جوهرها. أن نصِلَ كفلسطينيين إلى مرحلة لا يخشانا أحد ولا يحترمنا أحد، فهذه خلاصة فترة حكمه بعد أن ثابر على إضعافِ قوّتِنَا، بل وطارد كلًّ من حاول مراكمةَ أيِّ نوعٍ من المُقاومة من المُسلّحة وحتى الشعبيّة. وبعد أنْ ضَبط وهجّن المناطق السكنيّة المكلّف بإدارتها في الضفة الغربيّة، ساهم في حصار من حاول أن يفعل شيئاً آخر، مثل مساهمته في حصار غزّة.

إنّ تشتيتَ وحدةِ القضية الفلسطينيّة أرضاً وشعباً كما جاء في صفقة القرن هو حصيلة سنواتٍ تحوّلت فيها السياسةُ الفلسطينيّةُ بمجملها إلى مسائل تفصيليّة ضاع داخلها موضوعُ القضية نفسه. وحتى اليوم فإنّ الخطابَ الرسميَّ الفلسطينيَّ المُعارض للصفقة لم يقوَ على الخروج من إطار الاستجداء على ما تبقى من أراضي الـ1967 و"القدس الشرقية" ومن فيها من فلسطينيّين. 

وبالرجوع إلى أحد بنود الصفقة الذي يُشير إلى "دولةٍ منزوعةِ السلاح"، فإنّه مطلب عباس كما هو مطلبُهم، أليس هذا البند تحديداً هو جوهر مشروعه في "القضاء على عسكرة الانتفاضة"؟ "لقد جربنا الكفاح المسلّح ولم ينجح" يقول عباس، ولكنه لا يشرح لنا أين أوصلنا مسارُه هو بالذات، المسار الذي وجد نفسه فيه ملقىً على قارعة الطريق. مسار صفقة القرن هو تتويجٌ لمساره هو بالذات، ومعارضته اليوم لا معنى لها، ما دام ملتزماً بتقليم كلِّ الأظافر التي من شأنها أن تُعارِض الصفقة. معارضته اليوم لا معنى لها ما دام أكثر عنفاً تجاه من يعارضون الصفقة منه تجاه من يفرضونها علينا.

كيف سيعارض عباس الصفقة وهو على رأس سلطة تعطّل فيها كلُّ شيءٍ باستثناء "التنسيق الأمنيّ"، وهي الوظيفة التي لا تكل السلطة على التأكيد أنها ملتزمة بها. وفي عام 2019 وحده، العام الذي بدأت تلوح فيه صفقةُ القرن للعلن، صرح رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، ناداف أرغمان، أنه تم إحباط أكثر من 450 عملية كبيرة بفضل التنسيق الأمنيّ.

واليوم حتى بعد إعلان الصفقة، أكدّ رئيسُ السّلطة الفلسطينيّة على التزامه في خطاباته الكثيرة بمحاربة "الإرهاب المحليّ"، وهو وضوحٌ لا لبس فيه بأنّ هذا هو كلُ ما تملكه السّلطةُ اليوم حين تدعي مواجهة الصفقة. وخلال 48 ساعة فقط من إعلان الصفقة، كان رئيس المخابرات الفلسطينيّة العامّة ماجد فرج، وفق ما نشرته قناة "كان" الإسرائيلية، يجتمع بجينا هاسبل، رئيسة وكالة المخابرات الأميركيّة المركزيّة CIA، ليُطمئنها على أنّ التعاون الأمنيّ بين الفلسطينيين والأميركييّن لن يتضرر وسيبقى على ما هو عليه. فيما تداولت وسائل إعلام تعميماً من عباس نفسه يقضي بكبح جماح المسيرات ومنعها من الاشتباك المباشر مع قوات الاحتلال، إضافة إلى ضرورة رفع صور عباس للتأكيد على الالتفاف حوله.

"قوى الإرهاب المحليّ"

ومن تمام بؤس المشهد السياسيّ الذي نحن فيه اليوم، أنّ القوى التي أشار لها عباس بقوى "الإرهاب المحليّ" في خطابه أمام الجامعة العربيّة السبت الماضي (01.02.2020)، سارعت قبل ذلك بأيام إلى المشاركة في اجتماعٍ دعا له (28.01.2020) في رام الله. وأعلنت أنها ستمدّ يد العون له وستقف خلفه في "التصديّ للصفقة". وهي بذلك تُساهِم في إعفاء السّلطةِ من تحمل مسؤولية ما أوصلتنا إليه، ومدّها بأكسجين إضافيّ لتستمرَ في بيع الأوهام للناس وتقديم نفسها كمتصدٍ للصفقة.

وبدلاً من النظر إلى صفقة القرن كفرصةٍ تاريخيّةٍ أمام قوى المقاومة لتجاوز السّلطة وخطابها، وإرثها وفضاء اشتغالها السياسيّ، بعد أن ثبت بالوقائع الماديّة بؤسه، ما زالت تلك القوى تراوح في ذات النوع من السياسة الصغيرة (سياسة تسجيل النقاط)، فهي لا تريد أن يُسَجّلَ عليها أنّها ضدّ "الوحدة"، أو أنّها ترفض التعاون في مواجهة الصفقة. وهي بذلك تفوت على الفلسطينيّين، فرصةَ إعادة بناء خطابٍ يتجاوز ما أوصلنا لحالة البؤس التي نحن فيها.

ما زلنا نراوح في المكان القديم نفسه، دون أن ننتبه أننا في حالة طوارئ جدّية إن لم نكن ندرك طبيعتها فإننا سنُجهِزُ على ما تبقى من أملٍ بالتحرر. "الوضوح" هو معركتنا الأولى اليوم، وقد ساهمت نخبنا السياسيّة على طوال الفترة السابقة في ملء فضائنا السياسيّ بكمٍ هائلٍ من اللغو السياسيّ، الذي يغطي الحقائق ولا يجرؤ على وصفها وتوضيحها. ومن لا يجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها اليوم فإنّه يغامر في تكرار حالتنا الرثة وفنائنا بشكلٍ كليٍّ. سيفقد الفلسطينيون تدريجيًاً (إن لم يكونوا قد فقدوها) أي صفةٍ سياسيّةٍ، وهو الأمر الجوهري الذي قاتلوا عليه من 1948 وحتى اليوم.

إنّ ما وصلناه من بؤس وإمعان في الهزيمة لم يقتصر على فصائل الضفة وغزة، فقد حوّلت "القائمة المشتركة" في أراضي الـ1948 معارضة صفقة القرن التي لم تُبقِ على كرامة أيّ فلسطينيّ وفلسطينيّة، إلى أداةٍ لحشد أصوات الفلسطينيّين في ذات اللعبة القديمة المُسمّاة "إسقاط اليمين ونتنياهو"، لتصبح اليوم "إسقاط صفقة القرن". ولم يتجاوز ردّها "الشعبيّ" على الصفقة مهرجاناً انتخابيّاً في قاعة رياضية في مدينة سخنين في الجليل، ومظاهرة خجولة في باقة الغربيّة. "إذا كان نتنياهو والمؤسسة برمّتها يحيكون لنا المؤامرات فشعبنا اليوم يردّ شعبياً، وبعد شهر سيردّ انتخابيّاً وسيفاجئهم بالأصوات التي ستنهال دعماً للقائمة المشتركة وانتصاراً على صفقة القرن"، هكذا كتب أيمن عودة رئيس القائمة المشتركة بعد أن نشر على صفحته مقطعاً عرضياً لخارطة المثلث كُتِبَ عليه "لا للترانسفير"، وهو على ما يبدو الشيء الوحيد الذي يخصّه في الصفقة وفي الخارطة التي فقدنا فيها كلّ فلسطين. 

يبقى هذا الحدث المُتمثل بإعلان الصفقة فرصةً تاريخيّةً أمام قوى المقاومة لتُعيدَ الحديثَ عن فلسطين كل فلسطين كما اعتدنا أن نرسمها، وبعد أن انتهت إلى غير رجعة فكرة "الحصول على ما تيسر منها"، ولِتُعيدَ الحديث عن كلّ الفلسطينيّين في كلّ مكان بعد أن أُخرِجوا سابقاً من الفضاء السياسيّ، وليس غريباً أن عباس لم يُشر للاجئين ولو إشارة بسيطة في خطابه. إنّها فرصةٌ لإحياء فلسطين من جديد بعد أن انحط بها خطابُ السّلطة إلى مستويات مجزأة مهّدت بدورها لوصولنا إلى ما نحن فيه اليوم من هوان في أعين أعدائنا، فقد انتهت إلى غير رجعة الفكرةُ التي سادت في حقلنا السياسيّ -"حل الدولتين" - وانتهت معها فكرة "الحلّ" نفسها. وصلنا القاع وبقي علينا أن نُسَمّيه بجرأة لننطلق منه لما يتجاوزه ويتجاوز الشروطَ التي خلقتْها المرحلةُ السابقة.
 

العرب: قوى الثورات المضادة

أصدرت معظم الدول العربية موقفاً داعماً لصفقة القرن، وسارعت لـ"تقدير" جهود أميركا في "إحلال السلام". وحين نمعن النظر نرى أن هذه الدول التي تلتقي اليوم مع أميركا و"إسرائيل" هي ذاتها دول الثورات المضادة (الإمارات والسعودية والبحرين ومصر..). هذا التطابق ليس وليد الصدفة، فحتى لو كان لكل دولة من هذه الدول أسبابها الخاصّة لدعم الصفقة وتعزيز العلاقة مع الإدارة الأميركية و"إسرائيل"؛ فإنّ السبب الجامع هو اشتراكها في تحالفٍ واحدٍ يهدف إلى تسوية المنطقة برمّتها وفق المصالح المشتركة لهذه الدول.

تحاول "إسرائيل" في السنوات الأخيرة ربط وجودها في الإقليم بعلاقة مباشرة لها في الدول العربيّة لا من خلال علاقة الأخيرة في الولايات المتحدة. وفي سبيل ذلك تسعى "إسرائيل" لربط نفسها بالمصالح المباشرة لهذه الدولة والمتمثلة في صراعاتها الإقليمية وعلاقاتها بشعوبها ومصالحها الاقتصادية وهنا تماماً تكمن نقطة الانطلاق: أنظمة فاقدة للشرعية أمام شعوبها، تتحالف مع قوّةٍ استعماريّةٍ تمدّها بكلِّ ما يلزمها من أسباب المحافظة على استقرار أنظمة الحكم فيها، على مستوى أمنيٍّ واستخباراتيٍّ واقتصاديٍّ. 

وهنا مجدداً تلتقي قضية فلسطين مع قضايا التحرر في المنطقة العربية، ويكون التخلص منها وتصفيتها على حساب شعبها غير منفصل عن قمع هذه الدول لآمال شعوبها في التحرر. وفي هذا يكون وجود "إسرائيل" في المنطقة والتطبيع بل والانتقال للتحالف معها متموضعاً في رؤية الطرفين لمصير المنطقة وكل شعوبها.