14 نوفمبر 2022

العالم بين بستانَيْن

العالم بين بستانَيْن

منتصف الشهر الفائت، صرّح الإسباني جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي قائلاً: "أوروبا بستان متحضّر وباقي العالم (ما عدا أميركا) غابة. يجب أن نحمي البستان وإلا فسيغزونا سكان الغابة. ولنمنعهم من ذلك، يجب أن نذهب نحن إلى الغابة". 

ليست هذه زلّة لسان يستلذّ فرويديو التحليل السياسي بالقبض عليها وسبر ما وراءها، إذ لا جديد في ما يضمره التصريح من رؤية تقسّم العالم إلى متحضّرين وبرابرة. الجديد هو تجدّد طرح هذه الرؤية مرّة بعد مرة، على نحوٍ يحطّم آمال المتفائلين بتعقّل هذه الإمبراطورية الاستعمارية وعودتها إلى رشدها، بعد نحو نصف قرن من النقد الذي دبّجته الأقلام من الداخل والخارج لهذه الرؤية الاستشراقية ومضامينها المتعالية. وهذه المرّة، لم يأتِ التصريح من معسكر اليمين الشعبوي، الذي يحلو للحالمين حصر الخطاب العنصري فيه وتبرئة الليبراليين "الحقيقيين" منه، بل يأتي بالضبط من قلب المعسكر الذي يرفع الراية التي يصرّ فوكوياما أنها ما تزال مرفوعة. الجديد الثاني طبعاً، هو إعادة تعريف حدود البستان، لتصبح روسيا مرة أخرى خارجه. 

في تاريخ آخر وجغرافيا أخرى، بل قل في عالم ثقافيّ ودلاليّ آخر، نقرأ في مقدّمة ابن خلدون هذه العبارة ذات السحر الإيقاعي: "العالم بستان، سياجه الدولة؛ الدولة سلطان، تحيا به السنة؛ السنة سياسة، يسوسها المَلك؛ الملك نظام، يعضده الجند؛ الجند أعوان، يكفلهم المال؛ المال رزق، تجمعه الرعيّة؛ الرعية عبيد، يكنفهم العدل؛ العدل مألوف، وبه قوام العالم؛ العالم بستان...". ثمان كلمات من الحكمة "ارتبط بعضها ببعض وارتدّت أعجازها على صدورها، واتصلت في دائرة لا يتعيّن  طرفها"، كما يقول ابن خلدون. احتار نسّابو الأفكار في تعيين أبٍ لهذه العبارة، التي تناقلتها صحف قديمة مجهولة ومعلومة، في قصّة تجمع اليونان والفرس والقبط والسريان، غير أنّهم لم يختلفوا في أنّ الكتّاب المسلمين كانوا هم الورثة الشرعيّين لهذا القول، الذي أودعوه بوعي في نفائس تصانيفهم كـ "بهجة المجالس" للحافظ المالكي ابن عبد البرّ القرطبي، و"المنهج المسلوك" للفقيه الشافعي أبو النجيب الشيزري، و"الآداب الشرعية" لابن مفلح الحنبلي، مزيّناً بصورة دائرة لا تتعيّن بدايتها ولا نهايتها. 

اقرؤوا المزيد: الحرب والدولة بين شميت ودولوز

ما الفرق بين بستان بوريل وبستان ابن خلدون؟ هذا ما يثير اهتمام كاتب هذه المقالة، وهو يرى مصداق ما أسماه الفيلسوف الصوفي عبد الواحد يحيى بـ "انتكاس الرموز"، أي انقلاب معانيها إلى أضدادها، وتحوّل أصلها الرحماني العلوي إلى مسخ شيطاني سفلي! 

كان عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان، قد عبّر عن سيرورة التاريخ الأوروبي بمراحله الثلاثة: ما قبل الحداثة، الحداثة، ما بعد الحداثة، وذلك من خلال ثلاث استعارات لعلاقة الإنسان بالبيئة الطبيعية. فعنده أنّ البشر في المرحلة الأولى تولّوا دور "حراس الصيد"، فحرّاس الصيد هؤلاء لهم حمى يحمونه، يتركون لدورة الحياة الطبيعية أن تأخذ مجراها في الغابة وتضبط توازناتها الداخلية بنفسها، ثمّ يستفيد الإنسان من عطاء الغابة والمرعى صيداً وقطافاً دون أن يدمّره أو يسمح لغيره بتدميره. في المرحلة الثانية، ظهر "البستاني". والبستاني يتدخّل لتحسين نظام الطبيعة ضمن حدود بستانه. أما في المرحلة الثالثة، فقد انحلّت علاقات التعاون بين الإنسان والطبيعة إلى علاقة استغلال تدميري تقوم على الصيد الجائر الذي لا يراعي أمانة الوجود ولا ضرورة الحفاظ على استدامة الحياة الطبيعية. 

ولأنّ باومان كان مستوحشاً من مآل الرؤية الحديثة التي قامت، منذ ديكارت وبيكون، على هدف السيطرة على الطبيعة، واستندت منذ ولادتها على كوجيتو الإبادة قبل كوجيتو الفكر (بحسب إنريكو دوسيل)، فإنّه لم يرَ في "البستان"، إلا خطوة وسطى نحو الاستغلال الجشع لكلّ  شيء. 

في قصيدة نسيت عنوانها وموقعها في دواوين محمد إقبال، كان إقبال يشكر الله على منح الإنسان دور الفاعل المشارك في تشكيل العالم، فيقول ما معناه: إلهي منحتني النار وأنا صنعت المصباح، منحتني الغابة وأنا سيّجت البستان. لم تقم هذه الرؤية على منازعة الإنسان للربّ جلّ جلاله، أو سعيه لتنصيب نفسه سيّداً على الأرض. فالفلاّح في بلادنا "ابن الأرض" وهو منسجمٌ معها وفق شروطها في علاقة من التحويل والتعديل والتحسين، مع الاعتراف بقانونها والخضوع لها مذعناً لربّه الذي ائتمنه على الطبيعة وشاكراً له أن سخرها له. 

لم تدم البساتين الأوروبية طويلاً قبل أن يظهر نموذج المزرعة الحديثة ذات المحصول الواحد، وقبل أن تظهر فكرة الغابة الصناعية، التي تمثّل صورة نموذجية لعقلية السيطرة على الطبيعة وإعادة هندستها وفق الحسابات والمطامع الإنسانية. ولمن لم يطالع ترجمتنا لجيمس سكوت، فإنّ تجربة الغابة الصناعية كانت تعني إعادة هندسة الغابة بصورة "علمية" لزيادة إنتاج الخشب. تحوّلت الغابة من مسكن لآلاف الكائنات الحية إلى مصنع خشب، فتمّ صفّ أشجار التنوب والصنوبر في صفوف متساوية المسافات: غابة متساوية الأطوال، بلا حشائش ولا أوساخ ولا خمائل. وبدا بأنّ الطبيعة الخام قد تحوّلت إلى ماكينة إنتاج فائقة، وأنّ الإنسان سيّد هذا الوجود القادر بعلمه على التربّع على عرش الكبرياء والرفاه. ولكنّ الذين فرحوا بما أوتوا أخذوا بغتة: مرضت الغابة العلمية. فالتربة السطحيّة عالمٌ معقّد بالكاد نعرف أسراره، وما كان الإنسان المستغلّ ينظر إليه "من أعلى" كزوائد لا حاجة لها (الشجيرات والحشائش وأوكار الحيوانات، والفطر، إلخ) كان يؤدّي وظائف أساسيّة في الحفاظ على حياة الغابة، ويرسي نوعاً من التوازن الدقيق الذي يكفل لهذا العالم بقاءه. لم تفلح الأسمدة ولا المبيدات الحشرية في إصلاح ما أفسده العطّار. وبدأ العلماء في إرجاع الطيور والحشرات والحيوانات الأخرى قسراً إلى الغابة، لعلّ النظام الطبيعي يأخذ مجراه من جديد. 

اقرؤوا المزيد: جيمس سكوت.. "أن تنظر كأنك دولة"

العالم بستان. تأتي الدولة لتقيم سياجها في جزء مخصوص من هذا البستان الكوني. ترعاه وتنتفع به ضمن علاقات قوة معتدلة البطش، لأنّ قوام هذا العالم -يا سادتي- هو بالعدل، فالقيمة (ما يجب) ليست منفصلة عن الوجود (ما هو كائن)، بل هي مبناه وشرط قيامه واستمراره؛ والعدل مألوف، مغروس في الفِطَر والضمائر الإنسانية، وبه قامت السماوات والأرض. 

لم تعرف الحداثة الأوروبية وهي تغادر نسختها الحزينة من المسيحية هذا الميزان، الذي يصوغ علاقة تشاركية بين الإنسان والعالم، تتأسس على معاني الأمانة والتسخير والشكر والاستخلاف. علاقة يُكرّم فيها بنو آدم في ملكوت من يسبّح له كلّ شيء، دون "أنا" متكبّرة تسعى للتربّب، فانحصرت خياراتها بين طرفين: إما الحنين إلى الغابة البدائية، التي لم تمسّها يد الإنسان (هايدغر) أو تحويل العالم إلى غابة لا بدّ من نهبها دفاعاً عن مزرعتنا التي نوشك على تدميرها لنغادرها لاحقاً -إن لزم الأمر- إلى المريخ! 

أما دائرة الحكمة، فقد انتهت إلى خطّ يشير دوماً إلى الأمام، ولو كان الأمام هو الهاوية.