27 يوليو 2020

بعد "وقفة عزّ".. من بقي واقفاً على قدميه؟

بعد "وقفة عزّ".. من بقي واقفاً على قدميه؟

في الثاني من أبريل/ نيسان الماضي، أصدرت الحكومة الفلسطينيّة قراراً بتأسيس صندوقٍ لجمع التبرعات باسم "صندوق وقفة عزّ"، بهدف إعانة العائلات المعوزة والمتضررة بعد بدء أزمة فيروس "كورونا" وما نتج عنها من تدهور في الأوضاع الاقتصاديّة. 

أسندت السّلطة مسؤولية الصندوق إلى كبار العاملين في القطاع الخاصّ الفلسطينيّ. هكذا، تشكّل مجلس إدارة الصندوق من ثلاثين شخصية فلسطينيّة من أصحاب رؤوس الأعمال والشركات الكبيرة، وذلك بإدارة طلال ناصر الدين، رجل أعمال فلسطينيّ معروف.

بعد أكثر من ثلاثة أشهر على تأسيس الصندوق، وبعد عودة الضفة الغربيّة إلى الإغلاق مرةً أخرى، وفي بعض الأحيان إلى فتح مشروط ومقيد، بسبب موجة أوسع من الفيروس، يزداد السؤال بين الفلسطينيّين عن ازدياد الديون والهموم المعيشية، وازدياد معدلات البطالة، وارتفاع نسبة الفقر. وكذلك، يزداد السؤال عن "وقفات العزّ" وفعاليتها.

"وقفة عزّ"، ولكن بنسبة 62%..

عند تأسيسه، وضع الصندوق هدفاً له بجمع 20 مليون دينار أردنيّ، أي حوالي 96 مليون شيكلاً، وحُدِّدت وجهتان أساسيتان لصرفها: الفقراء والمعوزون الجدد خاصّة من العمّال الذين انقطعت أشغالهم، ووزارة الصحّة الفلسطينيّة لمساعدتها على مواجهة الوباء. 

رغم إجراءات الإغلاق المتطرفة التي اتبعتها السّلطة الفلسطينية منذ اللحظة الأولى لتسجيل 7 إصابات بـ"كورونا"، إلا أن الإعلان عن آلية لدعم المتضررين والذين انقطعت أعمالهم، والتزموا بيوتهم، تأخّر شهراً كاملاً. 

وبعد مرور حوالي شهر من الإعلان عن الصندوق، وعلى ما يبدو في ظلّ انخفاض مدخولاته من التبرعات، أُعلِن عن الثامن من مايو/ أيار يوماً وطنيّاً للتبرع لصالحه. ومن خلال تلفزيون فلسطين فُتِحت موجة إعلاميّة  لجمع التبرعات، استمرت فقط 3 ساعات، ولم تنجح في رفد الصندوق بالكثير مما كان يطمح إليه. 

وبعد حوالي شهرين ونصف من التأسيس، في منتصف مايو/أيار الماضي، تمكّن الصندوق من جمع 12,5 مليون دينار أردنيّ فقط لا غير، وهو ما يُشكّل تقريبا 62% فقط من الهدف المبتغى الوصول إليه. 

ما أعلن الصندوق عن تجميعه حتى منتصف مايو/ أيار 2020، ولم يُعلن بعدها عن أي مبالغ إضافيّة.

أما مصادر ما تم جمعه من أموال، فقد تنوعت بين تبرعات من أعضاء الصندوق أنفسهم، الذين تراوحت تبرعاتهم بين 50 ألف دولار إلى مليون دولار، وبين تبرعات متفرقة لشركات تجارية صغيرة ومتوسطة ومؤسسات ورجال أعمال ومقتدرين فلسطينيين. وبحسب قائمة أسماء المتبرعين التي نشرها الصندوق حتى 12 يوليو/ تموز الجاري، فقد وصل عدد جهات التبرع إلى 268 متبرعاً فقط. 

وقد ثار الجدل خلال شهر نهاية أبريل/ نيسان الماضي، بعد أن قال رئيس الوزراء محمد اشتية في خطابٍ له إنّه أوصى بتبرع الموظفين الحكوميين بأجرة يومين "لدعم الجهود الحكوميّة لمواجهة أزمة كورونا ومساعدة المتضررين". اعتبر كثير من الموظفين، وخاصة من أصحاب الرواتب المتواضعة، أنّ الحكومة تريد جمع الأموال على حساب إفقارهم بدلاً من اقتطاع الأموال من أرباح الشركات الكبرى. 

لاحقاً، صرح اشتية أن التبرع "طوعي"، وأن من لا يريد التبرع يمكنه إعلام مديره بذلك. رغم التراجع ظاهرياً، إلا أن الامتعاض باقٍ، فقد جعل هذا التراجع التبرع هو الأصل، وعدم التبرع استثناءً يستلزم إرسال الرسائل لإعلام المدراء.

وقد أثير الجدل مرةً أخرى، عندما أعلنت البنوك العاملة في الضفة والقطاع عن نسبة مساهمتها في صندوق "عزّ"، وهي نسبة منخفضة مقابل أصولها أو أرباحها التي سجّلتها في العامين المنصرمين. في المقابل، دُفِع الموظفون في عدد من هذه البنوك إلى التبرع بنسبةٍ مُحددةٍ من مدخراتهم، أو إلى التبرع بيوم عملٍ لصالح الصندوق، دون أن يبادروا هم لذلك، في حين روّجت لذلك البنوك بالقول إنّ "الموظفين هم من قرروا التبرع".

أما النّاس عامة، فقد امتنع كثير من المقتدرين عن التبرع للصندوق وفضّلوا البحث بأنفسهم عن محتاجين والتبرع لهم مباشرةً، معتمدين على التكافل الشعبيّ.

من بحث عن من؟

جمعت إدارة الصندوق أسماء المعوزين والمستحقين للدعم الماديّ عن طريق إتاحة التقدّم بطلب إلكترونيّ، من خلال رابط نشرته وزارة العمل الفلسطينيّة. تضمن طلب التقدّم للحصول على المنحة أسئلةً عن البيانات الشخصيّة لكلِّ مُتقدّم؛ اسمه، ورقم هويته، وحالته الاجتماعيّة، وعدد أفراد أسرته، ومستوى التعليم، ونوع العمل، ومدى التضرر من "كورونا". 

كذلك سُئِل المتقدمون إن كانوا يعملون في الأراضي المحتلة عام 1948، أو في الضفة الغربيّة. بل سُئل الذين قالوا إنّهم يعملون في الداخل عن طريقة دخولهم هناك إن كانت "تهريباً" أم من خلال تصريح إسرائيليّ. لاحقاً، شكى عدد من عمّال الداخل ممن سجّلوا للمنحة أنّهم التزموا بيوتهم استجابة لنداء الحكومة، خاصّة في أول شهرين من الأزمة، وفي ظلّ جو أشبه بالتحريض على العمال، ولكنهم لم يحصلوا على أي من هذه الأموال. وقد صرّح وزير العمل نصري أبو جيش بأنّ الأولوية في منح الصندوق للعمال الذين يعملون في الضفة، ومن ثم عمّال الداخل. 

أما الخطوة الثانية بعد جمع الأسماء إلكترونيّاً، فتقول إدارة الصّندوق إنّها حُوِّلت إلى وزارتي العمل والتنمية الاجتماعيّة، للتأكد من عدم إدراج هذه الأسماء لدى الوزارتين، بمعنى أنّ المتقدمين ليسوا موظفين حكوميّين أو من الذين يتلقون مساعدات حكوميّة مُنتظمة من وزارة التنمية الاجتماعيّة.

قُوبِلت هذه الطريقة بالكثير من الانتقادات. اللجان العماليّة مثلاً، اعترضت على آلية جمع الأسماء، واعتبرتها مفتقرةً لمعايير مهنيّة وواضحة. اعتبر رئيس لجنة طوارئ الاتحاد العام لنقابة العمال الفلسطينيّين، رياض كميل، أنّ نسبة الخطأ في قوائم أسماء المعوزين كبيرة، وقد يصل إلى خمسين بالمئة حسب تقديره. ويقول إنّ القوائم احتوت على أسماء تُجار وأشخاص مقتدرين. وتقول هذه اللجان إنّ أحد أسباب هذه الأخطاء هو أنّ القوائم لم تُقدّم للجانٍ محليّة في المحافظات للعمل على تنقيتها من أسماء الأشخاص غير المعوزين أو للتأكيد على حاجة آخرين.

وبحسب المعلومات التي وفّرها الصندوق، فقد تقدّم لطلب منحة "وقفة عزّ" من خلال الروابط الإلكترونيّة، ما يقارب 270 ألف فلسطينيّ. صُرِفَت الدفعة الأولى في مايو/أيار لحوالي 40 ألف شخص، بمبلغ 700 شيكل، ثم صُرِفت الدفعة الثانية، وهي 500 شيكل، لحوالي 30 ألف عائلة في يونيو/حزيران. وهي مبالغ بالكاد "تسلّك الحال"، كما يعبر كثيرون. فما الذي يمكن أن تفعله 700 شيكل لعائلة قُطع رزق معيلها لأكثر من 4 شهور. فيما خُصص مبلغ مليوني شيكل لدعم القدس، ومبالغ أخرى خصصت للفلسطينيين في مخيمات الشتات، ولدعم الطلبة المحتاجين.

هل نجح الصندوق؟

يبدو واضحاً إذاً أنّ الصندوق لم يحقق أهدافه، لا في الوصول إلى الرقم المطلوب، ولا في تقديم معونة حقيقية ومُجدية لآلاف العائلات، ولا في الوصول إلى جميع الفقراء والمحتاجين.

وتتعدد التحليلات في تحديد أسباب ذلك. البعض يقول إنّ ما حصل مع صندوق "وقفة عزّ" يُذكّرنا بالنفوذ والتسهيلات التي يحظى بها القطاع الخاصّ لدى السّلطة الفلسطينيّة في مقابل دورهم المحدود في المسؤولية الاجتماعيّة. لقد حصل كبار المستثمرين ورجال الأعمال في السّلطة الفلسطينيّة على مدار سنوات على تسهيلات ومحفزات للاستثمار، بل وحتى على بيئة عزّزت من احتكارهم لبعض الخدمات في السوق الفلسطينيّ. 

وبينما راكم هؤلاء الأرباح، لم يلمس النّاس أي أثرٍ لهم في تحمّل مسؤولية حماية الفقراء ومساندتهم. وقد قارن كثيرون بين قيمة الأرباح وقيمة التبرعات. على سبيل المثال،  قُدِّرَت أرباح مجموعة الاتصالات الفلسطينية بـ64 مليون دينار أردنيّ لعام 2019، فيما بلغت قيمة تبرعاتها للصندوق حوالي 1.6 مليون دينار أردنيّ فقط. 

اقرأ/ي: "تسهيلات سلطة النقد؟ الرابح يبقى مصرفاً..".

ويربط آخرون تدني المبلغ الإجماليّ الذي جمعه الصندوق بالتنافس والصّراع داخل القطاع الخاصّ، وعدم رضا بعض أقطابه عن تمثيل الصندوق، ورفض استبعادهم  من مجلس إدارته. وقد أثارت قصة بنك القدس مع صندوق "وقفة عز" التساؤلات حول طبيعة العلاقة داخل أروقة القطاع الخاصّ الفلسطينيّ. أعلن البنك في البداية عن تقديمه مبلغ 860 ألف دولارٍ للصندوق، لكنه تراجع لاحقاً وأعلن أنّه سيُقدّم المبلغ مباشرةً للحكومة الفلسطينية؛ 800 ألف دولار لوزارة الصحّة، و60 ألف دولار لوزارة التنمية الاجتماعيّة.

أعادت هذه القصة للواجهة فشل مشروع اندماج بنك الرفاه المملوك لأحد ممثلي صندوق وقفة عزّ مع بنك القدس قبل أعوام، وذلك بسبب الاختلاف حينها على تمثيل مجلس الإدارة، لتبرز التساؤلات اليوم حول إمكانية تغليب المصالح الذاتيّة على المصالح العامة في مثل هذه المواقف.

ورغم الأخطاء التي واكبت العمل في آلية جمع وتوزيع أموال صندوق "وقفة عزّ"، ورغم ضآلة المبلغ الذي قُدّم، وانخفاض عدد المستفيدين، إلا أنّ السلطة الفلسطينيّة ما زالت تتغنّى بالصندوق، وكأنّها المُنقِذ للفقراء والمحتاجين. فيما لا يخفى على هؤلاء الذين اصطفوا بطريقة مهينة أمام البنوك لعدة ساعات تحت أشعة الشمس وخطر الإصابة بفيروس "كورونا"، أنّ الحكومة هي التي أحالتهم إلى هذه الوضعية الاقتصاديّة الصعبة بسبب القرارات غير المدروسة، وثقافة الجشع التي ربت عليها القطاع الخاص منذ توقيع اتفاقية أوسلو وحتى يومنا هذا.



7 أبريل 2021
غزّة: ملوك الفلفل الحرّيف

تقول إحدى النكات الدارجة في قطاع غزّة: "إذا أردت أن تصطاد غزّاوياً، فانصب لهُ فخاً من الفلفل"، فهذا نوعٌ من…