1 يونيو 2020

راجعة بإذن الله: أزمة الشيكات وعقليّة السلطة

راجعة بإذن الله: أزمة الشيكات وعقليّة السلطة

مع كلّ أزمة اقتصاديّة، سواء كانت خلفيّتها سياسيّة بين السلطة الفلسطينيّة والاحتلال، أو صحيّة كما أزمة "كورونا" الجارية، يزيد النقاش حول ظاهرة الشيكات البنكيّة المرتجعة إذ ترتفع نسبتها في ظلّ الأزمات بشكلٍ كبيرٍ. ولكن النقاش حول المسألة يركِّزُ في الغالب على الارتفاع الآني تحت وطأة الأزمة الحاصلة فقط، فيما يغيبُ النظر إلى مجمل الزيادة الكبيرة في استخدام الشيكات في التعاملات الماليّة، وخصائص استخدام الشيكات لغرض التسديد في فلسطين. كما يغيب الحديث عن ازدياد استخدام شيكات الدفع الآجل لأغراض تمويل الاستهلاك الشخصيّ، والآثار الاقتصاديّة والاجتماعيّة المترتّبة على ارتفاع نسبة الشيكات المرتجعة.

تعتبر الشيكات من وسائل الدفع المُهمة والمركزيّة في التبادل التجاريّ، وتحلّ كثاني وسيلة دفع بعد النقد في التعاملات الماليّة بين الفلسطينيّين. إلا أنّ زيادةَ استخدامها، خصوصاً في تمويل عمليات الشراء الاستهلاكيّ، يُمكِنُ أن تتسبب بأضرارٍ كثيرةٍ ما لم يتم ضبطها بقوانين وتعليمات، وسقوف ماليّة تراعي مجموعةً من العوامل. من أهمّ هذه العوامل الملاءة الماليّة والدخل لمصدر الشيكات، وعدد الشيكات المسموح إصدارها، وغير ذلك مما يضبط تداول الشيكات ويقنن استخدامها.

مع إجراءات الإغلاق والطوارئ التي أعلنتها الحكومة الفلسطينيّة في رام الله، قفزت نسبة الشيكات المرتجعة إلى مستوىً غير مسبوق. خلال أبريل/ نيسان المنصرم، بلغت نسبة الشيكات المرتجعة لعدم كفاية الرصيد حوالي 37% من مجمل الشيكات المُقدّمة للتقاص، وذلك كنتيجة للأزمة الاقتصاديّة الحالية، ولكن الأمر ليس جديداً!

في الحقيقة، ليست هذه المرة الأولى التي نشهدُ فيها ارتفاعاً في نسبة الشيكات المرتجعة، فقد شهد عام 2017 ارتفاعاً كبيراً في الشيكات المرتجعة، إذ بلغت قيمتُها مليار و250 مليون دولاراً، أو ما نسبته 9.8 % من الشيكات المقدمة للتقاص. وفيما تراجع هذا الرقم قليلاً خلال العام 2018، إلا أنّه عاود الارتفاع في عام 2019 إلى مليار و277 مليون دولاراً، مُشكِّلاً ما نسبته 10.16% من مجمل نسبة الشيكات المقدمة للصرف.

علاج الأزمة: إجراءات في ذات الدوّامة

يقودنا ذلك للسؤال: كيف تعاملت وتتعامل الجهات المعنية في السلطة الفلسطينيّة والقطاع المصرفيّ مع موضوع الشيكات؟ من الناحية الإجرائيّة، أنشأت سلطة النقد الفلسطينية مبكراً مكتباً للمعلومات الائتمانية. يوفّر المكتب معلوماتٍ وبياناتٍ خاصّة بالأفراد، ويُـتيحها بطريقة محوسبة لكلِّ المؤسسات المصرفيّة في مناطق السّلطة. هكذا، يُصبح بمقدور هذه المؤسسات الاستعلام عن التاريخ الماليّ للمُتقدمين للحصول على تسهيلات ماليّة أو قروض، أو المتقدمين لاستصدار دفاتر الشيكات. كما يُقدّم مكتبُ المعلومات هذا تصنيفاً للأفراد بناءً على تاريخ اقتراضهم، أو كفالاتهم لمقترضين، أو شيكاتهم الصادرة والمرتجعة، مما يساعد المؤسسات الماليّة في قرار منح القروض أو إصدار دفاتر الشيكات.

ولكن الأمرَ لا يتعلقُ دوماً بالمسائل الإجرائية فقط، فلطالما حرصت سلطةُ النقد الفلسطينيّة وغيرها من مؤسسات السلطة الاقتصاديّة على إدخال ما يمكن من أدوات "التكنولوجيا الماليّة" وتطوير أنظمة الدفع والتبادل. ولكن السؤال الأهم: في أي سياق يجري هذا التطوير؟ وضمن أي سياسة اقتصاديّة وتنمويّة يندرج؟ إنّ الطفرة التي طرأت على حجم الدين والإقراض وشيكات الدفع الآجل كانت في غالبيتها لتمويل الاستهلاك الشخصيّ، وذلك بتشجيعٍ من السّلطة الفلسطينيّة والقطاع المصرفيّ، وسط إقبالٍ غير مدرك للعواقب من قبل شريحة واسعة من الفلسطينيّين. 

جعلنا ذلك أسرى لدوامة من القروض والديون والشيكات المستحقة في سبيل تحقيق مستوى رفاهية أعلى من مستوى الدخل. فإذا أخذنا العام 2019 كمثال، فقد بلغ خلاله عددُ الشيكات الصادرة 6.56 مليون شيكاً، وبلغت قيمتها 12.76 مليار دولاراً، ويكون متوسط قيمة الشيك الواحد قد بلغ 1945 دولاراً تقريباً، وهو ما يفوق بكثير متوسط دخل الفرد في الضّفة الغربيّة. 

تتجلى الخطورة الاقتصاديّة للشيكات المرتجعة في كونها تعبِّرُ عمّا يمكن تسميته بالنقد الوهميّ. مبالغ هذه الشيكات تدخل في حساب النقد المتوفر في السوق، ولكنّها غير متوفرة حقيقةً. إذ أنّ أصحاب هذه الشيكات فشلوا في سدادها وتغطية رصيدها، الأمر الذي قد يؤدي مع الوقت إلى مشاكل اقتصاديّة جمّة.

إضافةً إلى ذلك، فإنّ عمليات الربح الفاحش من خلال عملية "تكييش" - أي تحويلها إلى نقد- الشيكات الآجلة مقابل نسب فوائد مرتفعة جداً، إضافةً إلى ما يحمله من غبن، فهو يشكل سبباً من أسباب التضخّم في الاقتصاد. والمقصود هنا أنّ التكلفة المرتفعة لتكييش الشيك تؤدي إلى خلق قيمة ماليّة غير حقيقية في السوق وغير مبنية على أي نشاط اقتصاديّ حقيقيّ، أو تبادل للسلع أو الخدمات مثلاً.

ومن المشاكل الاقتصاديّة المرتبطة باستخدام الشيكات الآجلة كوسائل للدفع والتقسيط، هو استغلالها من قبل التجار والموردين لتضخيم أسعار السلع وتقييمها بأكبر من قيمتها الحقيقيّة، مما يساهم كذلك في تضخم الأسعار مع الوقت. إذ عادة ما يقوم التجار والموردون بتقييم السلعة المباعة بالشيكات الآجلة بما يفوق ثمنها بكثير، وذلك كنوع من التعويض عن بيعها بالتقسيط، الأمر الذي يؤدي مع الوقت لارتفاع الأسعار.

لا تقتصر مخاطر الشيكات المرتجعة على الجانب الاقتصاديّ، فالآثار الاجتماعيّة المترتبة عليها لا تقل خطورة، إذ أنها تنعكس عادةً على أسر بأكملها، فالشيك ورقة التزام ماليّ تحمل صفةً قانونيّةً قوية، ومن المرجح جداً أن تترتب عليها عواقب من قبيل الملاحقة القانونية والحبس وغيرها، إضافةً إلى الوصمة الاجتماعية المرافقة لهذه التبعات.

جدير بالأزمة الحالية، وما شهِدته من ارتفاعٍ كبير في نسبة الشيكات المرتجعة، أن تلفت نظر صانع القرار الاقتصاديّ والماليّ في السلطة الفلسطينية إلى خطورة هذه الظاهرة، وضرورة التدخل بمجموعة من الإجراءات والقيود على منح الشيكات واستخدامها. على ألا تقتصر هذه القيود على مراقبة التاريخ المالي والائتماني للأفراد، بل وتراعي كذلك القدرة والملاءة المالية لهم.

ولعل هذه الأزمة تكون فرصة لإعادة النظر في مجمل السياسات الاقتصادية المتبّعة وبدء تحوّل باتجاه خلق اقتصاد محليّ تنمويّ يساهم في تحقيق اكتفاءٍ ذاتيٍّ ويخلق فرص عمل حقيقيّة، تساهم في تعزيز صمود الفلسطينيّين بعيداً عن دوامة الاستهلاك.