16 مايو 2020

التهمة: توزيع طرود غذائيّة!

التهمة: توزيع طرود غذائيّة!

في الوقت الذي أدّت فيه إجراءاتُ حالة الطوارئ في الضّفة الغربيّة إلى توسيع دائرة العوز والاحتياج، لم تتوانى أجهزةُ السّلطة الفلسطينيّة عن قمع المُبادرات المجتمعيّة والمؤسسات الخيريّة، العاملة في دعم العائلات المُحتاجة وإسنادها. 

رأت السّلطة الفلسطينيّة في العمل الإغاثيّ فُرصةً لتحسين صورة مؤسساتها أمام النّاس، وخاصّة صورة الأجهزة الأمنيّة التي راكمت من قبل حالةً من فقدان الثقة بها. وفي محاولة للسيطرة على المشهد، حاولت السّلطة خلال الشهرين الماضيين استبعاد أيّ عملٍ إغاثيّ من خارجها. تمثّلت سياسة الاستبعاد هذه بأنماط متعددة: بدءاً من محاولة احتواء بعض المُبادرات المجتمعيّة وضمّها تحت جناحها، ومن لم يستجب ضغطت عليه للحصول على نسبة من الطرود الغذائيّة التي يُحصّلها، مروراً بفرض شروط رقابيّة وسُلطويّة، وصولاً إلى اعتقال عددٍ من نُشطاء العمل الإغاثيّ.

تُعبّر عن ذلك وتُكثّفه جملةٌ وردت في فيديو منشور على "فيسبوك"، يرددها أحدهم أمام جمع من النّاس يبدو أنّهم جزء من لجنة طوارئ في بلدةٍ ما، إذ يقول: "أي مساعدة لا تمرّ عبر لجنة الطوارئ التي تمثّل جميع أهالي البلد، فهي مساعدة مشبوهة".

تُجوّع الناس ثمّ تُعاقب من يُطعمها؟

تُخبرنا الأرقام التي ترصد الوضع الاجتماعيّ بعد إعلان حالة الطوارئ، عن 53 ألف أسرة فلسطينيّة دخلت جديداً إلى دائرة الأسر تحت خطّ الفقر، وعن تضرّر أكثر من 110 آلاف أسرة، وأكثر من 450 ألف عامل فلسطينيّ. 

لينا خطّاب، متطوعة في حملة "الناس لبعض"، تُشير إلى بعض هذه الفئات المتضررة، وتقول إنّ الاتصالات التي تأتيهم تتنوّع مصادرها بين: أصحاب تكاسي، وعمّال في الأراضي المحتلة عام 1948، ومطلّقات، وأرامل، ومُعلّمات روضة، ومُعلّمات مدارس خاصة. تُضيف خطّاب أنّ دائرة المُحتاجين في اتّساع، فتقول: "حتّى ناس من الطبقة الوسطى، انصدمت إنهم محتاجين، بس كل مشاريعهم توقفت".

اقرأ/ي المزيد: "بلا عقود وبلا تمثيل.. من يكفّل حق عمال القطاع الخاصّ؟"

هكذا، وجدَ نشطاء العمل الإغاثيّ التطوّعي أنفسهم في هذه المرحلة أمام مسؤوليات جديدة ودوائر أوسع للاحتياج. في الوقت ذاته، تركت وزارات السّلطة الفلسطينيّة فراغاتٍ كثيرةً غير مملوءة في هذا الجانب، ولم تبدأ تدخلاتها الرسميّة إلا متأخرةً. مثلاً، بعد طول انتظار صُرِفت الدفعة الأولى من مساعدات صندوق "وقفة عز" فقط في الأسبوع الثاني من مايو/ أيار الجاري، لحوالي 10 آلاف أسرة، وذلك بواقع 500 شيكل لكلّ أسرة، ولمرّة واحدة فقط! 

اقرأ/ي المزيد: "بنوك تزدهر.. اقتصاد يتحطم".

عمليّاً، فقد نشطت هذه المُبادرات والمؤسسات في سياقٍ فشل السّلطة الفلسطينيّة في التغطية على شريحة واسعة من المُحتاجين. وهو فشلٌ منبعُه تبنّي السّلطة مُنذ مجيئها سياساتٍ اقتصاديّة أضعفت من مقوّمات صمود النّاس، وربطت المُجتمع المُفقر بالسوق الإسرائيليّ، وأفواه البنوك ورجال الأعمال.

من هذا الضعف الذي خلَقته السّلطة نبعت حاجة المُجتمع لأن يرعى نفسه بنفسه، وكان السبيل الأول العمل الخيريّ من خلال المبادرات التطوعية، أو المؤسسات. أمّا المُكافأة على ذلك: الاعتقال والتحقيق حول توزيع طرود غذائيّة على الأيتام والفقراء، والمنع والمُصادرة والإغلاق، والإجبار على العمل من خلال السلطة ومؤسساتها الرسميّة.

التهمة: إطعام الفُقراء!

اعتقلت السُّلطة عدداً من المتطوعين في العمل الإغاثيّ، وحقّقت معهم حول توزيع الطرود الغذائيّة على المحتاجين والفقراء، ضمن حملة أوسع من الاعتداءات السياسيّة في الضفّة الغربيّة، والتي تجاوزت الـ 150 حالة خلال فترة الطوارئ. عند النظر إلى خريطة الاعتقالات السياسيّة على خلفيّة العمل الخيري تحديداً، نجد أنّها طالت في معظمها المُنتمين إلى حركة "حماس" أو ممن يحملون توجّهات إسلاميّة. 

وكان كلّ من الشيخ إياد ناصر من مدينة طولكرم، والشيخ فضل جبارين مدير الجمعية الإسلاميّة لرعاية الأيتام في يطّا-الخليل، الاسمين الأبرز في سلسلة اعتقالات كثيرة على "تُهمة" العمل الخيريّ، أو ما تُسمّيه لغة المحاكم الفلسطينيّة: "جمع وتلقي أموال من جمعيات غير مشروعة". استمرّ اعتقال ناصر 10 أيام، فيما استمرّ اعتقال جبارين 8 أيام. 

وقد أشارت مجموعة "محامون من أجل العدالة" في إحدى بياناتها إلى وقوع بعض المخالفات خلال محاكمة المعتقلين السياسيين لدى الأجهزة، مثل عدم الامتثال لإجراءات المحاكمة العادلة، فهي لم تتمكن مثلاً من تقديم طلبات إخلاء سبيل بسبب تعطّل المحاكم. 

صورة الأمن الوطنيّ كما رُسمت في جريدة "الأيام"، بتاريخ 09 أبريل/ نيسان 2020

من بين المعتقلين، فضل جبارين، وهو مدير جمعية مختصة في مساعدة الأيتام والفقراء، ومرخّصة وتعمل منذ عام 1997، والذي أضرب خلال اعتقاله عن الطعام لمدة 3 أيام. الذنب الذي ارتكبته الجمعية التي يُديرها أنّها رفضت أن يقتصر دورها في يطا على جمع التبرّعات دون التوزيع، في مقابل أن تأخذ لجنة الطوارئ حصراً مهمّة توزيع المساعدات والطرود على الناس. 

وتجنّباً للخلاف قامت الجمعيّة بتوزيع المُساعدات على الأسر التي لا تشملها مُساعدات لجان الطوارئ. غير أنّ ذلك لم يُعفها من اعتراض سيّارات لجنة الطوارئ لسيّاراتها، ومن ثمّ مُصادرتها ومُصادرة الطرود بداخلها. تبع ذلك اعتقال ثلاثة شُبّان من الجمعيّة، كان الإفراج عنهم شريطة أن يحضر مُدير الجمعية فضل جبارين لاعتقاله بدلاً عنهم. وهو اليوم يُساوم على استقالته حتّى تُخرج الأجهزة سيّارته التي صادروها. 

بحسب مصادر في البلدة، فإنّ ما أثار حفيظة السلطة هو مشهد العمل الإغاثي، حيث تُوزّع الجمعيّة طروداً على الناس بقيمة 500 شيكل للطرد الواحد، فيما طرود لجنة الطوارئ لا تتجاوز قيمتها الـ 200 شيكل. ربّما هذه هي نقطة الخوف الأساسيّة لدى السلطة؛ أن يتفوّق غيرها في عمل يستميل قلوب الناس لصالحه وليس لصالح السّلطة، وأن يأخذ العمل الإغاثي -حتى وإن كان مُرخّصاً- دوراً اجتماعيّاً يتفوّق على دور السلطة، ما يجعل المسألة بالنسبة لها سياسيّة أكثر من كونها اجتماعيّة.

حتّى لو كنت فتحاويّاً

وفي طولكرم منعت الأجهزة الأمنيّة في أبريل/ نيسان الماضي حسام عارف صاحب مبادرة "قوافل الخير" من ممارسة العمل الإغاثيّ. وأشارت له أنّ السبب يعود إلى عدم امتلاكه ترخيصاً يُخوّله للعمل. أشار عارف، وهو شاب ينتمي إلى حركة "فتح" لكن بدون صفة رسمية، إلى أنّه قدّم أكثر من مرّة طلبات للجهات المُختصّة لإعطائه ترخيصاً للعمل الخيري، ولكن لم يتلقَّ أي ردّ. كتب تعليقاً ساخراً على حسابه الشخصي على "فيسبوك": "صار توزيع الطرد الغذائي في طولكرم أصعب من توزيع المخدرات".

من متابعة القصة، نعلم أنّ "الترخيص" لم يكن فعليّاً السبب. فبعد إثارة عارف لقصّته، وتدخّل العديد من الجهات الرسميّة وغير الرسميّة، عادت "قوافل الخير" إلى عملها، ولكن هذه المرّة بانضمام شبّانٍ محسوبين على تنظيم حركة "فتح". فيما يبدو أنّ وجودهم هو نوع من أنواع فرض السلطة الرقابيّة على أيّ عمل خارج توجيهات المؤسسة الرسميّة.

نتذكر هنا أنّه عندما يتعلّق الأمر بحركة "فتح"، ترتبط المسألة بالتنافس على امتلاك النفوذ، ففي الحركة اليوم تيّارات مُتعدّدة، وكُلٌّ له نُفوذه ورجاله. هنا أيضاً يُصبح العمل الإغاثي بالنسبة للسلطة مُخيفاً ومُركّباً، فهو عملٌ يُعطي صاحبه شرعيّةً عند الناس.

التوزيع من خلال سيّارة الأمن الوطني

أما المبادرات الشبابيّة المُستقلّة، فقد تعرضت لضغوطات لثنيها عن العمل الإغاثيّ خارج إطار رقابة السّلطة. في بعض الحالات، قيل لنشطاء تلك المبادرات: "حرصاً عليكم ولمنع تفشّي الفيروس، عليكم العمل من خلالنا". وقد استجابت بعض تلك المبادرات للضغوط، ونشرت على صفحاتها على "فيسبوك" صوراً لطرود غذائيّة تُوزّع من خلال البلديّة، أو المُحافظة، أو الدفاع المدنيّ، أو حتّى مركبات الأمن الوطني. 

نُشطاء إحدى المبادرات قالوا إنّهم واجهوا عدة محاولات لاحتواء عملهم من قبل المُحافظة التي ينشطون في إطارها. في المرّة الأولى، ضَغط ممثلو المُحافظة على المُبادرة أن يقتصر دورها على جمع التبرعات الماديّة وتحضير الطرود فقط، ثمّ تُسلّم تلك الطرود لطواقم المحافظة فتقوم بتوزيعها، على أن تكفل المحافظة منح بعض أفراد المبادرة التصاريح التي تسمح لهم بالتنقل في ظلّ حالة الطوارئ. استمرّت "المفاوضات" بين المُحافظة والمُبادرة حتّى جرى الاتفاق على إعطاء المُحافظة 80 طرداً فقط من مجموع الطرود الغذائيّة. يُعلّق على ذلك أحد المتطوعين فيقول: "صرنا بس نجيب طرود نوزّعها بسرعة عشان ما نعطيهم منها". 

أمّا المرّة الثانية، كانت حين عادت المُحافظة للضغط على المُبادرة أن يجري توزيع جميع الطرود الغذائيّة من خلالها، ولكن هذه المرّة ليس من سيّارات المُحافظة وإنّما من خلال سيّارات الأمن الوطنيّ. وعادت لتقديم نفس الذريعة: الوضع الصحّي وانتشار فيروس "كورونا". وهي ذريعة لأنّه لا منطق يجعل من عملية توزيع الطرود خطراً صحيّاً فيما يكون جمع التبرّعات مسألة طبيعيّة. هذا بالرغم من أنّ المُبادرة تقوم باتباع الاجراءات الوقائيّة وتعقيم الطرود. 

قديمٌ يُعاد

أرادت السلطة أن يقتصر العمل الإغاثي على مؤسساتها، من محافظة وبلديّة إلى أجهزة أمنيّة ولجان طوارئ. واستغلّت حالة الطوارئ لتمرير سياسات وتصفية خلافات، كما استغلّتها أيضاً لتلميع صورتها واستفرادها بالمشهد لتظهر بصورة المُنقذ، ولم ترَ في العمل الإغاثي عائلات مُحتاجة، إنّما منصّة للدعاية الإعلاميّة. 

وللعمل الإغاثيّ في الضفّة الغربيّة ذاكرةٌ مع وحشيّة السلطة، إذ حلّت في أعقاب الانتفاضة الثانيّة أكثر من 130 جمعيّة خيريّة، وسيطرت على بعضها وأغلقت البعض الآخر. وبالتالي كان جلّ ما فعلته أنّها حاربت أيّ عمل من شأنه أن يُنمّي المُجتمع ويزيد من تماسكه، ودعمت سياسات خصخصّة أفقرت المُجتمع وأغرقته بالديون، وصوّرت ذلك على أنّه التنمية الحقيقيّة في الطريق إلى الرفاه!

لذلك لم يكن أبداً الخلاف مع هذا العمل بالنسبة للسلطة على قانونيّته أو صحيته كما في فترة الطوارئ، بل كانت دائماً المسألة خلافاً سياسيّاً ونهجاً تبنّته السلطة بكلّ مؤسساتها. هكذا بات كلّ من يوزّع طروداً غذائيّة على الجائعين وأدويةً على المرضى مصدراً للتهديد يجب اجتثاثه أو احتواؤه، وبات كلّ عمل إغاثي بالنسبة للسلطة يحمل داخله احتماليّة تشكّل نواة اجتماعيّة تُهدّد وجودها سياسيّاً.