8 مايو 2020

سيرة استنزاف الصحّة في غزّة

سيرة استنزاف الصحّة في غزّة

رغم أنّ عدد الإصابات بفيروس "كورونا" في قطاع غزّة لا يزال منخفضاً، وأنّ أغلبها إصاباتٌ محصورة في القادمين من خارج القطاع، ورغم أنّ جميع المصابين -وفق رواية وزارة الصحّة في غزّة- دخلوا الحجر الصحيّ دون مخالطة أحد، إلا أنَّ خطأً واحداً من الممكن أن يتسبّبَ بكارثةٍ لا تُحمد عقباها في مجتمعٍ محاصرٍ يُعاني ضعفاً شديداً في مستواه الصحيّ وقدراته الطبيّة، ويُعتبر ضمن أكثر الأماكن اكتظاظاً في العالم.

مثل قطاعاتٍ أخرى، يعاني قطاعُ الصحّة في غزّة من أزماتٍ كثيرةٍ بسبب الحصار المفروض منذ بداية الانتفاضة الثانية، والذي تعزّز بعد الانسحاب الإسرائيليّ عام 2005. وهكذا، منذ أكثر من عقدٍ ونصف، يعيشُ القطاعُ الصحيُّ حالةَ انهيارٍ متواصل. تمنع دولةُ الاحتلال إدخالَ الكثير من مستلزمات المستشفيات مثل الأجهزة الطبيّة،  ومجموعة واسعة من الأدوية بالكمية المطلوبة، بل منعت أكثر من مرة منظمة الصحّة العالميّة من إدخال أجهزة ومستلزمات صحيّة للقطاع.

ثلاثة مقوّمات مُستنزَفة

يعتمد قطاعُ الصحّة في غزّة على ثلاثة مقومات إسناديّة ليتمكن من التعامل "الجاري" مع الأوضاع الصحيّة. الأول وهو التحويلات الخارجيّة لعلاج الأمراض التي لا تستطيع مستشفيات القطاع التعامل معها، سواءً التحويل إلى مستشفيات الضّفة أو المستشفيات الإسرائيليّة، أو مستشفيات أخرى خارج حدود فلسطين. المقوم الثاني متعلقٌ بالوفود الطبيّة الخارجيّة، والتي غالباً ما تكون وفوداً تخصّصيةً في مجالاتٍ صحيّة بعينها مثل العظام والأعصاب. وتُسهِمُ إلى حدٍّ ما في علاج عددٍ لا بأسَ به من المرضى، خاصّةً أولئك الذين لا يستطيعون السفر العلاجيّ بسبب المنع الإسرائيليّ، والذين وصلت نسبتُهم إلى 50% من مجمل أعداد المرضى الذين حصلوا على أذونات للعلاج في الخارج. أما المقوّم الثالث فهو المساعدات الطبيّة القادمة من منظمة الصحّة العالميّة، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، والسلطة الفلسطينيّة.

لطالما تعرّضت المقومات الثلاث لأزمات مستمرّة، فالتحويلات الخارجيّة كانت وما زالت تتعرض لمضايقات كثيرة، أهمّها المنع الأمنيّ الإسرائيليّ لعلاج المرضى. فمنذ عام 2008 وحتى عام 2018، بلغ معدل الممنوعين من المرور عبر حاجز إيرز لغرض العلاج 28% من مجمل طلبات العلاج في الخارج، أي ما يقارب 58 ألف مريض، وفي عام 2019 بلغت نسبة الممنوعين من مجمل طلبات العلاج في الخارج 35%. وفي الاتجاه العكسيّ لحاجز إيرز، يمنع الاحتلال دخولَ الكثير من الوفود الطبيّة إلى القطاع دون أي أسباب، ولا سيما الوفود الطبيّة الحكوميّة من الضفّة الغربيّة. 

اقرأ/ي المزيد: "غزّة جاهزة لمواجهة كورونا؟"

أما المساعدات الطبيّة الخارجيّة، فقد استخدمت كثيراً كأداة ضغط أساسية على القطاع الصحيّ، فالكثير من المواد والمعدات والأجهزة بقيت شهوراً تنتظر الموافقة الأمنيّة الإسرائيليّة حتى تدخل قطاع غزّة. يؤثر هذا المنع الإسرائيليّ على الخدمات الصحيّة بطبيعة الحال: تكون محطات تصنيع الأوكسجين لأجهزة التنفّس في كثير من الأحيان غير قادرة على إنتاج كميةٍ تكفي لأكثر من شهر بسبب تقييد دخول المواد اللازمة. كما أنّ عملية صيانة الأجهزة في محطات تصنيع الأكسجين تعاني من معضلات كبيرة، مثل عدم توفر قطع الغيار بشكلٍ دائمٍ، مما يعني أنّه في حال حصول عطل في جهاز ما فإنّ ذلك قد يؤدي إلى إخراجه من الخدمة قبل استنفاد طاقته. 

وعلى رأس هذه التحديات، تعرّض القطاع الصحيّ في غزّة لهجماتٍ عسكريّةٍ إسرائيليّة متعددة استهدفت مرافقه، كان أبرزها قصف مستشفى الشفاء، ومستشفى شهداء الأقصى، ومستشفى القدس أثناء الاجتياحات أو الحروب. عدا عن استهداف سيارات الإسعاف والمسعفين، لا وبل غرف العناية المركّزة أحياناً. 

سندان العدو، مطرقة العقوبات

منذ ثلاث سنوات، واجه القطاع الصحيّ في غزّة ضغطاً كبيراً بفعل حدثين كبيرين. الأول، هو الإجراءاتُ العقابيّة التي اتخذتها حكومةُ رام الله ضدّ القطاع في أبريل/نيسان 2017، وكان قطاع الصحّة أحد أبرز المتضرّرين منها. فعليّاً، فإنّ المسؤول عن التحويلات العلاجيّة من قطاع غزّة إلى الضفة الغربيّة أو إلى "إسرائيل" هو وزارة الصحّة الفلسطينيّة في حكومة رام الله. أدّت العقوبات منذ عام 2017 إلى تقليص التحويلات من القطاع إلى خارجه، ولم تعد تتجاوز منذ ذلك الحين 20% من مجمل التحويلات الطبيّة. ذلك بالإضافة إلى عدم توريد مستلزمات وزارة الصحّة الطبيّة والعلاجيّة. 

وعلى الرغم من أنّ نسبة التحويلات من القطاع ارتفعت قليلاً في العام 2018، إلا أنّها ما زالت أقلّ من المطلوب، سواءً من حيث احتياج قطاع غزّة أو من حيث المقارنة مع تحويلات الضفة الغربّية إلى "إسرائيل". بالإضافة إلى ذلك، فإنّ انخفاض الدعم الماليّ أثر في قدرة القطاع الصحيّ على التوظيف الطبيّ، مما قلّص الكادر الطبيّ بشكلٍ كبير. أدّى ويؤدي ذلك على المدى البعيد إلى هجرة عددٍ كبيرٍ من الأطباء للخارج بسبب محدودية فرص التوظيف، والتي إن حصلت تكون برواتب متدنية، فمثلاً يحتاج قطاع المختبرات -والتي تعتبر من أهم قطاعات الوزارة- إلى 800 موظف لمواكبة احتياجات السكان، ولكن الموظفين حالياً هم 260 موظفاً بعقود.

اقرأ/ي المزيد: "حجر منزليّ في المخيّم؟"

أما الحدث الثاني فكان مسيرات العودة وفك الحصار في مارس/ آذار 2018، إذ أنّ المسيرات على مدار عامين أوقعت بالمتظاهرين آلاف الإصابات، التي تُقدّر بحوالي 35 ألف إصابة، من ضمنها 19,464 تمت معالجتها في المستشفيات، ومنها 7927 إصابة بالرصاص الحيّ.

وكانت نتيجة ما سبق، انهيارات متتالية في منظومة الصحّة، فانقطاعُ الكهرباء ونفاذ الوقود المستمر كان يوقف المستشفيات عن عملها لبعض ساعات، وبعض المستشفيات تتوقف بالكامل لأيام. تشير معطيات وزارة الصحّة المنشورة بشكلٍ واضحٍ إلى خللٍ كبيرٍ في منظومتها الطبيّة، فعددُ المستشفيات في قطاع غزّة بلغ 32 مستشفى، 13 مستشفى فقط لوزارة الصحّة، وعدد الأسرّة فيها 2943 سريراً، تصل نسبة إشغالها إلى 95%، ونسبة خلو السرير 0.2%. أما عدد غرف العمليات فيصل إلى 89 غرفة، مع الإشارة إلى أن غرف العمليات الموجودة في المستشفيات غير الحكومية لا يتم تشغيلها إلا في الضرورة القصوى بسبب قلة الكادر البشريّ، كما تقول وزارة الصحّة. بالإضافة لذلك بلغت الأصناف الصفرية للأدوية (أي الأصناف التي لا تكفي لأكثر من شهر) نسبة 46% من أصناف الأدوية.

أما بخصوص المختبرات الصحيّة، فتعاني من أزماتٍ كبيرة، فنسبة العجز الماليّ تصلُ إلى 26.9%، ولا يوجد استقرار في توريد الأصناف اللازمة لمخازن المختبرات وبنوك الدم، مما زاد في أعداد الأصناف الصفرية في المختبرات لتصل في بعضها إلى 69%، مما جعل خدمة المختبرات تتقطع بين الحين والحين. أما أخطر شيء، فمتعلق بأجهزة التنفس، والتي يبلغ تعدادها 63 جهازاً، وتصل نسبة إشغالها إلى 63% حسب وزارة الصحة الفلسطينية.

لا يمكن لهذا العدو أن يكون إنسانيّاً

عام 2018، قبلت المحكمةُ الإسرائيليّةُ العليا التماساً ضدّ قرار الحكومة الإسرائيليّة بمنع خروج مرضى غزيّين لتلقّي العلاج بسبب قرابتهم من نشطاء حركة "حماس"، واعتبرت المحكمة قرار الحكومة الذي أمرت بإلغائه "غير قانونيّ" و-"غير ناجع". مع هذا، وعلى الرغم من قرار المحكمة، لا زالت الحكومة الإسرائيليّة متمسّكة بمنع خروج المرضى للعلاج كوسيلة للضغط على حركة "حماس". لا بل زادت نسبة المنع بعد حكم المحكمة لتصل إلى رفض 35% من الطلبات في العام 2019 بحجّة أنّ "ملف المريض قيد الفحص".

ولو أخذنا بعين الاعتبار بأن من يسمح لهم بالعلاج يتعرضون لمضايقات واسعة، ومماطلة في الرد، فستكون الصورة هنا أكثر سوداوية. فعشرات المرضى الذين سمح لهم، يجري ابتزازهم على المعابر للتخابر مع الاحتلال، أو اعتقال بعضهم أو بعض مرافقيهم واستجوابهم، وأحيانًا يتم إرجاع المرافقين وإدخال مرضى أطفال لا يملكون من أمرهم شيئاً، كما حصل مع الطفلة إنعام العطار والتي سمح فقط لها بالدخول والعلاج في مستشفيات الضفة الغربيّة، دون مرافق.

وفي هذا السياق، سياق حصار القطاع وإنهاكه، تجيءُ تصريحات وزير الأمن في دولة الاحتلال، نفتالي بينت، لتؤكد استمرارية العقاب الجماعيّ لسكان القطاع، إذ قايض إدخال المساعدات الطبيّة المتعلقة بمواجهة الوباء مقابل معلومات عن الجنود الإسرائيليين الأسرى. إلا أنّ واقع القطاع أكثر تعقيداً من تصوّر ورؤية بينت، وهو ما ألمح إليه يحيى السنوار، رئيس حركة "حماس"، في مقابلة معه عندما قال إنّ "القطاع لن يكون وحيداً في مواجهة الوباء لو انتشر".

يضيف الوباء بعداً أكثر تعقيداً في معادلة الحصار، فالعدو مشغولٌ بمحاربة الفيروس لديه، ولن يسمح بإدخال مستلزمات متعلقة بمواجهة الوباء للقطاع طالما لم تخضع لتدخّلاته وشروطه، كما سيمنع أي محاولات لتمكين وتقويم الجهاز الطبيّ في قطاع غزّة، ليُبقي على إمكانيّة الضغط على المقاومة باستخدام صحّة الناس وحياتهم.