8 أبريل 2020

العدميُّ الذي يغسِلُ يديه لـ20 ثانية أو أكثر

العدميُّ الذي يغسِلُ يديه لـ20 ثانية أو أكثر

 صديقي العدميّ الذي بالفعل لديه أفكارٌ جديّةٌ حول انعدام القيمة النهائيّة لمعنى الحياة، يغسِلُ يديه هذه الأيام لـ20 ثانية أو أكثر بالصابون. لقد عَلِمَ كما أخبرني أنَّ الصابونَ العادي أفضل من السائل في مسائل التعقيم. 

تجرّأتُ أن أقولَ له: اسمع، "أنا أغسلُ يدي دقيقةً كاملةً، بتعرف الإنسان بخربش بالعد ولازم يحتاط". وحين رأيته يهزّ رأسَه موافقاً، أضفتُ: "وبعدين وزارة الصحّة الإسرائيلية قالت: الأدق علمياً أن نغسِلهم لدقيقة". علّق هو: "في مسائل الطب الواحد بصدّق "إسرائيل"، مزبوط!".

الانقلاب الحقيقيّ كان دعوته لي إلى العشاء الأخير، قبل أن يدخل طوعيّاً في الحجر الصحيّ. "إنها مسؤوليّة اجتماعيّة"، قال لي.

بروفايل العدمي الذي يخصنا

كي نستطيع رسم صورةٍ منصفةٍ لصاحبنا علينا أن لا نخلطَ بينه وبين الذين يقتبسون عباراتٍ وَجَدوها في كتابٍ لإميل سيوران أو غيره، ثمّ يشاركونها على "فيسبوك" ليستمتعوا بمراقبة أنفسِهم وهم عدميّون. لا يُمكِننا أنْ نقولَ إنّه من هذا النوع. كما أنّه لا يجِدُ نفسه هدفاً لسهام المؤمنين اليقينيّة التي يرمون بها العدميّة. 

صاحبنا، باختصار، كان قبل 10 سنواتٍ أكبرَ متفائل بيننا؛ صوتُه يصدح بالحريّة ولديه أحلام حول مُمكِنات سير التاريخ بطريقةٍ مغايرةٍ تماماً للتي جرى بها. ولكي لا نُحمّل عدميّته أكثرَ مما تحتمل، فهي عدميةٌ غير معنية بأيّ نقاشٍ لاهوتيّ حولها، (وجود الله من عدمه؟)، كان يعتقد أنّ الآباء انشغلوا بهذا السؤال أكثر من اللازم.

والشيء الذي يخصّ عدميته هو تماماً ما تُعبِّر عنه سيرة ألبومات فرقة "كايروكي"، هذه الفرقة الوفيّة لصوته كما شرح لي أكثر من مرّة. كانت الفرقةُ تُعبّر سريعاً عن التحوّلات التي يشعرُ بها (وأحياناً قبل أن يشعر بها)، من "اثبت مكانك" مروراً بـ"أنا الصوت"، وصولاً إلى "لو بكرا نهاية العالم"، وبكلّ ما يملك من طاقةٍ لا اكتراث كان يُردِّدُ: "هات لنا بالباقي لبان".

مرةً أجلسني واسمعني قصيدةً  لشاعرِ عاميّةٍ مصريّ يُدعى مصطفى ابراهيم، "مصطفى منا، كتب المانفستو"، كما وَصَفَه. كانت القصيدة تحملُ عنوانَ دواءٍ لمرضٍ نفسيٍّ، وهي من جزءين: "تفرانيل 50"، و"تفرانيل 100"، "هذا هو الموضوع اليوم صدقني. من الذي يستطيع تصنيع أدوية؟ أدوية للفرح، للحزن، للفقد، للوحدة، للسيروتونين الروحيّ، نعم الروحيّ تحديداً، لأنني أعتقد أن النقاش الدينيّ سينتهي بالصيدليات فلا تُقلِق نفسك به".  

 وظيفتي دائماً كانت أن أُهاجِمَ حماسَه، ثمّ أهاجم يأسَه في اليوم الذي يليه، وأحياناً في نفس الجلسة. ولكن فيما يخص ابتداء الحديث فهو الذي كان يحدِّدُ الموضوع على الدوام، أما اليوم، مع الوباء، فهو بلا موضوع. والأنكى بدون أدنى رغبة في تأمل الموضوع الذي أمامه.

ولكي لا تُسيئوا الظنَّ به مرةً أخرى، فهو ليس عدميّاً تماماً، كما نفى أكثرَ من مرّة عن نفسه، خصوصاً وأنّه منذ زمنٍ رَبَطَ جهازَه العصبيّ والكهربيّ بشكلٍ كليٍّ مع الأحداث، (كما فعلنا كلّنا)؛ إذا نزل النّاسُ في السودان أو الجزائر يعودُ اهتمامُه بالشأن العام، على شكل تلقيطِ أخبار، وتحليلٍ يتنبأ بتحوّل الأمور للأسوأ، وإذا بدأتْ القصةُ تأخذ مساراً بعيداً ناسيةً النقطة التي بدأت منها، يبرهن على صواب تحليله، ولا ينكفئ على نفسه ويصمت كما يليق، بل يُبشّر بشيء ما، آخر تماماً.

عندما قطع ستة أشهر بالـ"جيم" أخبرني أنّ الناس لو يكفون عن الضّجة المشغولين فيها فإنّه سيُبشِّر بالرياضة، حدث نفس الأمر عندما اكتشف "الديتوكس"، وفي المرات التي "انتكش" فيها على "الهايكينج" كان لديه ما يقوله في هذا الصّدد. وهكذا ضمن دائرة صغيرة وقنوعة لإنتاج المعنى كان يركض كـ"هامستر".

في المحصلة يُمكننا أن نقول إنّه عدميٌّ بالعموم، لكنه أحياناً يعيش مباهجَ متقطعةً في العلاقة مع الحياة وهذا ما يُبقيه على اتصالٍ بها. وكم كان هذا مُنعشاً لعلاقتنا، لكنّنا الآن مع مسائل التعقيم هذه، بدأنا نرتاب  من بعضنا البعض، وآخرها ما حدث في العشاء الأخير.

الفكرة التي تعبّر عن وجهة نظرهِ كما حاول شرحها مرةً هي التالي: بعد انحسار الأديان، ومن ثمّ انحسار الأفكار الكبرى التي حاولت أن تسدَّ مكانها، بقينا وحدَنا مع أفكارنا الصغيرة والتي شيئاً فشيئاً تحوّلت إلى انطباعات. لحظتُنا لحظة انطباعات، "إنْ نتبع إلا الظّن"، وعلينا أن نَــقْـنَع بذلك. وشيئاً فشيئاً سيصبح سؤال المعنى الكبير بلا معنى حين ننساه كلياً، أو هكذا نأمل!

"لدينا انطباعاتٌ كثيرةٌ دون وجود فكرةٍ واحدةٍ كبيرةٍ ومتماسكةٍ تستنِدُ عليها انفعالاتُنا، ومنها نشتقُ وظيفتَنا العينيّة في الحياة. وعلى "عجزنا عن إدراك الفكرة الواحدة" أن يكون الخلاصة التي نتعلمها عن تحررنا. صدقني، بالمحصلة على القرد الذي نحن بصدده أن يكفَّ عن الحلم بإنسانٍ أعلى، هذا هو الموجود والله". 

وفور شروعه بهذا الشرح الحكيم، أخذَ يسخرُ من الفكرة التي طرحَها للتو، وعلينا أن نُسجِّلَ هُنا أنّ صديقنا مثل كثيرٍ من الناس يستعملون "الساركازم" كآلية دفاعيّة حتى لا يُلزِموا أنفسَهم بتحمل عواقبِ أفكارهم حتى النهاية.  

الذي يُمكِنُ أن نستنتجَه بالخلاصة، أنّه كان يوطّن نفسه على "اعتياد أفول المعنى"، وهذا التعبير يعودُ له، وتسنِدُه فيه الكثيرُ من الشواهد الأدبيّة الحديثة التي تحتفي بهذا الموضوع على الخصوص.  

عالم من الانطباعات

مشكلةُ انطباعاتنا هذه أنّها لا تصمد أمام اللحظات الفارقة، صحيحٌ أنّها تُوهِمُنا بامتلاكِ فكرةٍ عن غياب فكرتِنا، لكنها لا تصمدُ حين نحتاج لصمودها بالفعل. مثلاً، من المفترض أن يكون صديقُنا العدميّ أقلّنا اكتراثاً. لكن، ها هو مثلنا في الأزمات يزاحمنا على الصّابون ويغسل يديه لعشرين ثانية أو أكثر. 

أن يمتلك الانسانُ فكرةً حقيقيةً يعني أن يتوصل إليها تحت الضّغط، ضغط أصيل لا يُثمّنُ الوجودَ إلا بأخذه لأقصى حدود البهدلة، ولا يريك قيمة الحياة إلا وهي في عزّ تعرضها للقضم من أطرافها وقلبها معاً.

في لحظات مواجهة الموت تحديداً يُفكِرُ الإنسان بشكلٍ جديّ، دون استعارات كثيرة، دون أن يختبئ خلف اللغة، دون أن تأخذه الرغبةُ في الانجراف لتقمص مشهد، ودون الانشغال بالبحث عن اقتباس للردّ على اقتباس آخر. في لحظات كهذه، فإنّ حقيقةً قديمةً معروفة أفضل من "ترند" يُعزّي الذات ويُشعِرُها بمعاصرتها، كلّ شيء تعلمناه يوضع على مقصلة الواقعية المفرطة، تُفرز الأفكارُ تلقائياً ليس بمحكمة العقل، بل على وقع الضرورة ولا نستبعد شيئاً لأننا قمنا بتفنيده ودحضه، بل لأنه هكذا فجأة يصبح غير ذي  صلة بما يجري. 

لا تُمكن مُحاججة عدميتنا بشيءٍ لأنّها ليست جديّة تماماً، إنّها انطباعات، وليست موقفاً أصيلاً مغروساً في شخصيتنا الحديثة، لأنّنا لا نملك هذا النوع من الادعاء عن الشخصية. أجداد العدمية الذين رافقوا "التنوير" كانت لديهم أحلامٌ إيجابيّة عن العدميّة، كالقول إنّها قادرة على تصفير كلّ شيء أمامهم، ونزع كلّ معنى مخادع (أي كل معنى بالضرورة)، وقلب كلّ حجرٍ لإخراج اللاهوتي الذي يختبئ تحته!، ومن ثم التبشير بالعصر الجديد. كان لأجدادنا مبالغاتهم في الانطباعات عن نوعنا الإنسانيّ وعن أنفسهم بالضرورة.

إنّنا نكتشف مجدداً أن أجهزتنا الداخليّة ما زالت تعمل بالطريقة القديمة نفسها، ذلك أنه لا يوجد شيءٌ جديدٌ جداً إلا وهو قائم على آلاف التكرارات قبلنا وقبله. لا شيءَ حقيقيٌّ بالفعل إلا إذا تكرّر بلا انقطاع، وما سوى ذلك "غيابات"  أو "الآفلين"، كما استنتج النبيّ إبراهيم من الآف السنين. "لَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ". 

وسيعجز من ينتمون لسلالة إبراهيم عن إدراك الذي أدركه أبوهم إبراهيم، لكنهم ما زالوا يرثون أُنفةً تجاه الآفلين، وهو عبء وتحدٍّ أكثر منه امتيازٌ أن تحمل إرثاً كهذا، إنّه "إرثنا الذي آل إلينا دون وصية". على الدوام يتركنا هذا الإرث غير قنوعين بما يمكن أن نتدبر به أنفسنا الحديثة، مما تيّسر من عالم المعاني والانطباعات.

العشاء الأخير 

سلّمنا بالأقدام أو بالمرافق لا أذكر، وأخبرني أنّه عَلِم بأنّ الكمامات بلا فائدة، ثمّ بدون أن يُمهِّدَ للموضوع مَسَك هاتفه وأشار إليه: "انظر بربّك، حشودنا المكوّنة من "الشعب يريد" تنتظم على شكل سوشيال ميديا يلاحق شخصاً فرّ من الحجر الصحيّ، ...إنّنا في لحظة لا يفرُ المرء فيها من أخيه وأمّه وأبيه فقط، بل إنّه جاهز للتبليغ عنهم أيضاً. ولكي أكون واضحاً معك فليس لدي مشكلة مع ذلك على الإطلاق". 

"وحين يتحوّل الطبُ والأمن إلى قطاعٍ واحد، صَدِقني، سيُصفق أكثرُ رجلٍ فوكويّ في العالم بكامل سعادته كل ليلةٍ السّاعة التاسعة أمام منزله مع باقي أفراد الحي"(في إشارة للعادة التي شاعت بالتصفيق تحيةً لجهود الطواقم الطبية في بعض البلدان).

قال لي في عشائنا الأخير أنّ على المرء أن يؤدّي ما يجب عليه من "المسؤولية الاجتماعيّة". على هذا العشاء أن يكونَ الأخير،  ثمّ نلتزم الحجر إلى حين تُفرج. (وها نحن عند الجائحة، نقبع في أجسادنا كجنديٍّ يقبع في دبابته، ينتظر التعليمات في وقت لا يحمل غير انطباعات عما يجري في الجبهة الغربيّة).

وعلى الباب سألَ بشيءٍ من السخرية: "أليس من المُضحك أننا حين نعرف أن بكرا نهاية العالم نشتري بالباقي هايجين".