7 أبريل 2020

هل يتسبب "كورونا" في تصاعد الجريمة بين فلسطينيي 48؟

هل يتسبب "كورونا" في تصاعد الجريمة بين فلسطينيي 48؟

قلَب فيروس "كورونا" الدنيا رأسها على عقبها. كل شيء تقريباً توقّف أو تبدّل. إلّا منحى واحد من مناحي "الحياة"، أو للدقة "مناحي الموت"، لدى فلسطينيي الداخل بقي مستمراً: العنف والجريمة.

يبدو أن هذه الظاهرة التي تفتك بالمجتمع الفلسطيني داخل الأراضي المحتلّة عام 1948، وتتضخم منذ العام 2000، لم يعطّلها انتشارُ الفيروس؛ فاستمرّ إطلاق النار على البيوت والسيارات وفي الهواء، واستمرّت "الطوش" والتهديدات في الشمال والمثلث والنقب ومدن الساحل. وعلى مدار ثلاثة أسابيع (12.03-06.04) من الأزمة سقطت ستُ ضحايا برصاص الجريمة: محيي الدين بدران (33 عاماً) من البعنة، ومحمد الشمالي (35 عاماً) من الرملة، وزمزم محاميد (19 عاماً) من أم الفحم، ومحمد سليمان (20 عاماً) من الطيرة، وتمام جبالي (84 عاماً) من الطيبة، وأشرف حامد (30 عاماً) من كفر قرع.

للحالة الاستثنائية للعنف والجريمة في الداخل بُنيةٌ تحتيّةٌ ومسببات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة ونفسيّة قائمة منذ ما قبل أزمة "كورونا" الحالية. إلا أنّ من شأن الأزمة إن طالَت، أن تؤدّي إلى تفاقم هذه المُسببات، ولا سيما الاقتصاديّة منها. وقد نكون في هذه الحالة أمام نتائج كارثيّة ودمويّة. 

تعيش غالبية المصالح التجاريّة العربيّة في الداخل الفلسطيني على القروض البنكيّة. فمن النادر أن تجد مصلحة غير مستدينة من أحد البنوك، وتقوم بتسديد الدفعات له بشكلٍ شهريٍّ. ومهما ظهر من نجاحٍ لكثير من هذه الأعمال، وامتلاك أصحابها لما يعكس "ثروتهم" مثل السيارات الفارهة وغيرها، فإنّ نسبةً عاليةً من هذه الممتلكات مرتهنة للقروض البنكيّة. يعني ذلك أنّ أي توقّف لمدة شهر عن العمل، يجر وراءه صعوبة في تسديد الدّيون البنكيّة.

لكن المجهول سيّد الموقف في أزمة "كورونا". نحن أمام أزمة متواصلة، يبدو أنها لن تنتهي قبل حلول الصيف. لذا فإن انهيار مجموعة من هذه المصالح حتميّ، خاصّة أن الأزمة الاقتصاديّة لن تنتهي بانتهاء أزمة الفيروس، فعدا عن تراكم الدّيون على أصحاب المصالح حتى حينها، من المتوقّع أن تضعف القدرة الشرائية للناس. فمن يضمن لأصحاب المطاعم، مثلاً، أن زبائنهم سيمتلكون القدرة الماديّة على الأكل في المطعم بنفس الوتيرة السابقة؟ خاصّة مع تسريح آلاف العمّال والموظفين من القطاعات المتضررة جراء الإغلاق، كالقطاعات الصناعيّة والتجاريّة الإسرائيلية، وقطاع المواصلات العامّة، وهي قطاعات تعمل فيها شريحة واسعة من الفلسطينيين في الداخل.

فرصة ازدهار الإجرام

يقدّر مختصّون أنّ 20% من المصالح الفلسطينيّة داخل أراضي 1948 اعتمدت – في أيّام ما قبل "كورونا"- على "السوق السوداء" بأشكالٍ مختلفةٍ. أي أن خُمس هذه المصالح اعتمد على قروض تقدّمها جهاتٌ مدعومةٌ أو مموّلة من الإجرام المنظّم. تتغوّل منظّمات الإجرام في المجتمع من خلال الإقراض، وتشكّل هذه القروض مأساة للمستدينين، حيث تصبح قدرتهم على السّداد صعبة للغاية بسبب الفائدة الشهريّة المرتفعة على القروض. وبعد العجز عن التسديد، تدخل التهديدات اللفظيّة، ثم المضايقات والعنف الجسديّ وإطلاق النار على السيّارات ثم البيوت ثم على المستدينين أنفسهم إلى آخر هذه المأساة...

اقرأ/ي المزيد: "غابة الصرافين.. المال محركاً للجريمة في الداخل".

في ظل الأزمة الاقتصاديّة الجديّة التي نعيشها، أمامنا إمكانيّة فعليّة ومخيفة من انضمام مئات أو آلاف المصالح الفلسطينيّة إلى دائرة "الحلول السريعة": الدخول في متاهة الاستدانة من منظّمات الإجرام دون القدرة على السّداد، وبالتالي ازدياد التوتّر والعنف المجتمعي وزيادة توغّل هذه المنظّمات في المجتمع.

كذلك يُمكن أن نتوقّع ازدياد التنافس بين منظّمات الجريمة على السيطرة والموارد في حال استفحال الأزمة الاقتصاديّة. وإحدى المجالات المخترقة هي السلطات المحليّة، من مجالس وبلديّات، ومناقصاتها. وهذه إحدى المجالات التي تدخلت إليها الجريمة (بتفاوت بين البلدات) بقوّة، خاصة على ضوء الميزانيات التي ضُخّت للسلطات المحليّة في السنوات الأخيرة، لتفتح أعين الجريمة على الفرصة. ومن المحتمل أن ينتج ذلك حالات عنفٍ وجرائمٍ شهدناها سابقاً، خاصةً تلك التي تستهدف بيوت رؤساء البلديّات والمجالس أو المجالس نفسها.

علاوةً على هذا كلّه، فليس من المبالغ القول إننا في ظل الأزمة قد نشهد المزيد من اللجوء إلى "الحلول السريعة" التي ستصبح أكثر جاذبيّة لأجزاء من المجتمع، ولا سيما الشباب، وأننا قد نشهد نوعاً من التدفّق نحو الانخراط في عالم الجريمة لما يوفّره من مقابلٍ ماديّ "سهل".  

أثر الضغوط

لكنّ العنف المرتبط بهذه المسألة لا ينحصر بالعنف الذي تمارسه التنظيمات لاسترداد ديونها أو بالانخراط المباشر بعالم الجريمة. إنما تؤدّي هذه الضغوطات إلى مزيد من التوتّرات والتعقيدات والضغوطات العائليّة. فإن كان حجرنا في البيوت يضر بنفسيّة الإنسان "العاديّ"، فما بالك حين تتكدّس الديون (ومعها الخوف) دون أي حلولٍ في الأفق. التعقيدات المترتّبة عن التورّط بالسّوق السوداء يمكنها أن تؤدّي بدورها إلى تورّط بجرائم أخرى أو التدهور نحو خلافات ونزاعات مجتمعيّة أخرى. ناهيك عن إمكانيّة تفاقم النزاعات إلى مستوى عائليّ أوسع وأعنف.

ولا تسلم البيوت ذاتها من تصاعد هذا العنف. إذ تشير تقارير من أماكن عدة حول العالم اضطرت للحجر الصحيّ، مثل إسبانيا وإيطاليا والصين، إلى ارتفاع ملحوظ في حالات العنف المنزليّ، الذي تتعرّض له النساء والأطفال بالتحديد؛ في مقاطعة "خوبيي" الصينية، التي انتشر فيها الفيروس أولاً، تضاعف عدد الشكاوى للشرطة ثلاث مرّات. وأعلنت الشرطة الإسرائيلية أن الشكاوى ضدّ الأزواج ارتفعت من مارس/ آذار 2019 إلى مارس/آذار 2020 بنسبة 16%، وفي بلدة رهط جنوب فلسطين ارتفعت الشكاوى بنسبة 40%. كما أشارت تقارير إلى أن نسبة الإشغال في "مآوي النساء في خطر" ارتفعت من 90% إلى 95%. قد تكون هذه النسب -بطبيعة الحال- تشمل النساء الفلسطينيّات في الداخل، مع الإشارة إلى أن كثيرات منهنّ لا يتوجّهن لهذه الملاجئ ولا يشتكين للشرطة، وذلك لعدم الثقة في الشرطة والمؤسسات الاسرائيلية، إضافة للقيود المجتمعية التي تُشجّع المرأة على استحمال الظّلم في إطار المنزل.

هل من مخرج؟

فُرِضت على المجتمع الفلسطيني في الداخل في العقدين الأخيرين سياسات اقتصادية أثّرت بشكل كبير على قيمه ومناعته، خاصةً في ضوء تحوّلات الاقتصاد الاسرائيلي نحو اقتصاد السوق واستمراراً لعملية الضبط الاستعماريّ. اتجّه المجتمع نحو خيارات كثيرة مرتبطة بقيم السوق، وعلى حساب المصلحة العامة في بعض الأحيان.

في الأيام الأخيرة، انطلقت مبادرات طيّبة للتكافل الاجتماعي؛ صحيح أن هذه المبادرات محدودة وغير كافية، إلّا أنّها تُذكّرنا بإمكانية العمل سوياً، أيضاً في مجال الاقتصاد. فهل يمكننا التفكير في سُبُل اقتصادية مختلفة عن مسارات الخلاص الفردي؟ وهل تكون فرصة للتفكير في خيارات كالتعاونيّات، واتحادات العمال؟ خيارات جماعيّة تُقدّم حلولاً مستدامة، وليس "سريعة"، وتقود للحد من توحّش ظواهر الخلافات الاجتماعية وهيمنة عصابات الجريمة على المجتمع؟