31 مارس 2020

عن الإشاعة التي تنافس الفيروس في الانتشار

عن الإشاعة التي تنافس الفيروس في الانتشار

مساء السبت، 21 مارس/ آذار، بثّ التلفزيون الرسميّ الفلسطينيّ خبراً عن إصابة جديدة بفيروس "كورونا"، هذه المرة خارج بؤرة الإصابة المعروفة بيت لحم، وتحديداً في قرية شقبا شمال غرب رام الله. صاحبة الإصابة، كانت السيدة سجى نخلة (28 عاماً)، والتي كانت قبلها بأيام في رحلة سياحيّة في تركيا. رغم أنّها كانت قد توجهت لإجراء فحص للكشف عن الإصابة الفيروس، إلا أنّ سجى لم تكن على يقين بعد أنها المصابة المعنية، فقد بُثّ الخبر قبل تبليغها بالنتيجة.

خلال دقائق من الإعلان بدأت في القرية حملة مجتمعية لإغلاق المحال التجارية، وبعدها بربع ساعة أو أقل وصلت الأجهزة الأمنية وطلبت إغلاق القرية عبر مكبرات الصوت.

في ذات الوقت، انقلب كلّ شيءٍ على رأس سجى ورأس العائلة، وبدلاً من الانشغال بترتيب انتقال المُصابة إلى المستشفى أو مركز الحجر الصحيّ، انشغل الأهل بالردّ على الرسائل والاستفسارات، والأكثر قسوة؛ الردّ على الإشاعات. عن ذلك قال شقيق المصابة: "كان الوضع في البيت أشبه بمعركة حقيقة".

خلال دقائق من الإعلان، انتشرت عبر مجموعات الـ"واتساب"، وأحاديث النّاس، رواياتٌ متنوعة عن خطّ سير المُصابة وتنقلاتها وتصرفاتها خلال الأيام الأخيرة. وفجأة بدأ أهل المصابة يقرأون على "فيسبوك": "الله يسامحها..ما قصّرت، لفت البلد". آخرون قالوا إنّها "تواجدت في محل بيع الملابس الخاص بها بالقرية". آخرون كتبوا: "بقولوا إنها كانت حاضرة في حفل زفاف وتسببت في عدوى كل من تواجد في القاعة". وبعدها بيوم عندما تأكدت إصابة ابنتها الطفلة سيلين، والتي رافقتها في رحلة تركيا، قال آخرون: "تسببت في عدوى ابنتها". 

المعلومات الكثيرة التي خمّنت تحرك السيدة ونشاطها، دفعت العائلة إلى صياغة نصٍ وُزّع على بعض المجموعات، وبالأخصّ الصحافيّة منها، في محاولة لنفيها وتقديم رواية الأهل. وبدلاً من الإنشغال بالعلاج وتفاصيله، اضطر هذا الوضع أهل المصابة إلى التبرير. قالوا إنّه حين عادت إلى فلسطين، لم تكن تركيا مُدرجة ضمن "دول الوباء" التي تستلزم العودةُ منها حجراً منزليّاً لمدة 14 يوماً، ولم يطلبوا منها ذلك. مع ذلك، حرصت على عدم الاختلاط مع كثيرين، واكتفت بالسّلام "من بعيد" على من جاء لزيارتها، ولم تخرج من البيت مطلقاً.

مرض يستدعي بياناً للرأي العام!

تكرر الأمر مع أكثر من إصابة بالفيروس. حصل ذلك مؤخراً مع الإصابة التي أعلن عنها صباح يوم الأحد 29 مارس/ آذار، لسيدة في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربيّة. السيدة التي لم يُحدد بعد مصدرُ إصابتها، قيل عنها خلال دقائق من نشر الخبر إنّها "زارت كل محيطها"، و"ذهبت في رحلة مع مجموعة نساء"، و"تواجدت في حفل زفاف في القدس لأحد أفراد عائلتها"، آخرون ذكروا بالاسم عائلتي العريس والعروس. مساء نفس اليوم، وبعد أخذ عينات من المخالطين لها، نقل النّاس أن زوجها الذي تبيّن أنّه مصاب، يعملُ بائعاً متجوّلاً في المدينة، وأنه -حسب استنتاجهم- قد يكون تسبّب بعدوى كلّ من خالطه خلال الأيام الفائتة.

محمد، ابن السيّدة المصابة، والذي تبيّن كذلك أنه مصاب، قال من مركز الحجر في مستشفى الهلال الأحمر في الخليل، إنّ والدته لم تخرج في كل هذه "المشاوير" التي ذُكِرت، إلا أنها تواجدت بالفعل في حفل زفافٍ للعائلة، ولكن ليس في القدس، إنما في الخليل. نتيجة هذه المعلومة الصحيحة "نسبيّاً"، اضطر فرع العائلة القاطنين في القدس أن يُصدر بياناً "للرأي العام" ينفي فيه وجود عرسٍ لها في تلك الفترة.

أما بالنسبة لبقية الإشاعات، يُعلّق محمد عليها بالقول إنّها مضحكة مُبكية، فوالده مثلاً لا يعمل بائعاً متجوّلاً، وإنما هو متقاعد تقاعداً مُبكراً من وظيفته السابقة في وزارة التربيّة والتعليم، بسبب إصابته بجلطة أثرت على نظره. وقد نشرت الابنة على "فيسبوك" تعليقاً على هذه الإشاعات تطلب من النّاس أن يكفوا عن "الكذب".

وفي حالةٍ أخرى، لمصاب من قرية قراوة بني حسان، غربي مدينة سلفيت، شمال الضفة الغربيّة. سمع المصابُ عن نفسه روايات كثيرة تُصوّره كالفارّ من العدالة والمُهمِل المتقصد للأذى. عندما عاد المصاب، وهو أحد شيوخ الدعوة، إلى فلسطين من باكستان، مثله مثل السيدة من شقبا، لم يكن في حينه قد فُرِض الحجر المنزليّ على كلّ من عاد من الخارج. في 20 مارس/ آذار أعلن عن إصابته، وفي نفس اليوم لاحقته الشائعات وانتشرت بكثرة. قيل إنّه "رفض الحجر الصحي"، وأنّه "رفض قرار وزارة الأوقاف بإغلاق المسجد، وكسر قفل المسجد بالقوة"، و"صلى بالناس جماعة". آخرون وجدوا صورةً على غوغل لأحد الشيوخ فنشروها وقالوا "ها هو الشيخ المقصود".

خلال حديثه مع "متراس" لم يُخف الشيخ تأثره بهذه الإشاعات التي تصل حدّ "الاتهام". يقول: "هل يعقل أنني علمت بإصابتي وتعمدت مخالطة أقاربي وأولادي وأهل قريتي؟! هل يُعقل أن....."، صمت ولم يكمل، ثم قال بصوت متقطع: "حسبي الله ونعم الوكيل". 

حتى المخالطين!

وعدا عن الإشاعات التي تطال المُصابين أنفسهم، فإنّ إصابة أحدهم تعني أن يُصبح من خالطوهم ولو لدقائق في دائرة "الملاحقة". ما إن تثبت إصابة شخص ما حتى تبدأ الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة بالبحث عمّن خالطوه، خاصّة من هم من خارج العائلة، وربما الذين التقاهم في الحافلة أو الجامع أو المحل التجاريّ. تُجمع أسماء هؤلاء الرباعيّة في قوائم مع أرقام بطاقات الهوية الشخصيّة، وأرقام الهواتف، وأماكن السّكن. الغرض من هذه القوائم أن تُسهّل عمل الفرق الطبيّة لحصر دائرة انتشار العدوى وفحص المخالطين.

إلا أن دافع "الإثارة والتسلية" كما وصفته إحدى المخالطات للمصاب من سلفيت، يدفع بعضَ من تقع بين أيديهم هذه القوائم إلى إرسالها إلى كلّ مجموعات الـ"واتساب" التي يحفل بها هاتفه. تقول حمدان في منشور لها على "فيسبوك" إن انتشار قائمة مخالطي أحد المصابين، أدّى إلى أن تعيش هي وعائلتها "كابوساً حيّاً على مدار 24 ساعة". 

كانت أمل في طريق عودتها من الأردن، ويبدو أنها ركبت نفس الحافلة التي ركبها شخص ثبتت لاحقاً إصابته بالفيروس. أخذت عينة من أمل وثبتت عدم إصابتها. لكنها حتى ذلك الوقت تعرضت لسيل من "التحقيقات والإزعاج والاتصالات الهاتفية التي لم تنقطع"، حسب تعبيرها، دون مراعاة لأي "خصوصية" قد يبحث عنها أي مصاب.

ذات القصة جرت عندما أعلن عن إصابة الشاب من طولكرم، والذي كان عائداً من سفره في بولندا. عدا عن الروايات المتعددة لخطّ سيره، وطبيعة عمله، ومن التقى خلال الأيام القليلة التي سبقت إصابته، انتشرت في نفس اليوم قائمة مُروّسة باسم "جهاز الاستخبارات العامّة"، تضمّ أسماء المخالطين له في طريق العودة من عمّان عبر جسر الكرامة، وصولاً إلى استراحة أريحا. وعدا عن انتهاك نشر هذه القوائم لخصوصية المرضى أو المشتبه بإصابتهم، وإزعاجهم وتعريضهم للضغوطات المجتمعية والنفسيّة، فإنّ نشر الأسماء وتداولها يُحفّز التعامل معهم كـ"مطلوبين للعدالة".

من المسؤول؟

وبعيداً عن لوم الناس وتقريعهم لتداولهم الإشاعات، فإنّ السياق الذي تُولد فيه هذه الإشاعات هو غياب المعلومات ونقصها. تكتفي الجهات الرسميّة في كثير من الأحيان بالإعلان عن الإصابات، دون أن توّفر تفاصيل تُطمئن الناس وتُجيب عن أسئلتهم. في كثير من البيانات والمؤتمرات، لا يُجاب عن خطّ سير المصاب قبل اكتشاف إصابته، ولا يُعلن بشكل رسميّ وواضح عن الأماكن التي تواجد فيها، مما يفتح باباً للبحث عن المعلومات التي قد تطمئن النّاس، ومن ثم تتحول إلى تكهنات وإشاعات في غالبها. 

في مرة يتيمة بادرت مديرية الصّحة في رام الله إلى نشر خريطة العدوى لإصابة من قرية بدوّ شمال غرب القدس. ووضّحت الخريطة تفاصيل العدوى وتنقلها من قرية إلى أخرى، حتى وصلت إلى 30 إصابة. بحسب مدير الصحة في رام الله، وائل الشيخ، فإن إعداد الخريطة ونشرها كان باجتهادٍ من دائرته بهدف "التوعية"، ولكن ذلك ليس نهجاً متبعاً من الوزارة رغم أهميّته. ويبدو أن نشر الخريطة في مثل هذه الحالة كان بهدف التركيز على الزيارات العائليّة كوسيلة فعّالة لنشر العدوى، والتحذير منها.

أما فيما يخص القوائم المسربّة لأسماء مخالطي المصابين، فيقول الصحافي جهاد بركات، ووفق متابعته للموضوع، إن تلك القوائم على أنواع، بعضها تتضمن أسماء المصابين، وغيرها يتضمن أسماء المخالطين، وغيرها يتضمن أسماء فلسطينيّين من الضّفة الغربيّة عادوا من السّفر عبر مطار بن غوريون الإسرائيلي. يُعلّق جهاد: "قد يمتنع بعض الصحافيين عن نشر هذه القوائم، لكن مواقع التواصل الاجتماعيّ أداة بيد الجميع، فيمكن لمن أراد أن يقوم بإعادة نشرها حساباتهم الشخصية".

بحسب تقدير بركات فإّن مصدر هذه القوائم –في الغالب- موظفون في المؤسسات الرسميّة المُكلّفة بإعدادها لحصر بؤرة العدوى. يقول بركات: "يقوم أحد الموظفين بتسريبها لقريبٍ أو صديقٍ أو معرفة، وهكذا تُفقد السيطرة وتُعمم على الأصدقاء والمعارف، إلى أن تصل الجميع، وبهذا تنتهك خصوصية المريض أو المشتبه بمرضه، ويتم التعامل معه كمطلوب للعدالة يتداول الجميع اسمه".

عضو لجنة الطوارئ والناطق باسم الداخلية الفلسطينية، غسان النمر، اعترف بوجود "خلل" في تسريب هذه القوائم على حدّ تعبيره. كما لم يعارض ما ذهب إليه الصحافي بركات بأن مصدر التسريب هو المؤسسات الرسمية. وبحسب النمر فقد شُكّلَت أكثر من لجنة تحقيق داخلية لمعرفة المسؤولين عن ذلك. حتى اللحظة لم يُعلن عن أيّ نتيجة لهذه اللجان، مع أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية قد سبق وأن نشرت تفاصيل -خلال ساعات قليلة- عن اعتقالها لمن ادّعت أنهم نشروا إشاعات حول "كورونا".