2 أبريل 2020

كورونا والحيّز السكنيّ..

حين تعبس المدن الكبيرة... يبكي المخيّم

حين تعبس المدن الكبيرة... يبكي المخيّم

أَفرغَ وباء "كوفيد-19" شوارع المدن حول العالم في سيناريو لم تشهد البشريّةُ مثله من قبل. مدنٌ مكتظّة مربوطة بخطوط تجاريّة عالميّة جعلت من العالم شبكةً واحدةً جاهزة لنقلٍ سريع للفيروسات. قد يعود الضجيج إلى الشوارع كما كان، لكنّ هذا الوباء سيعيدُ تشكيلَ سياساتٍ وخرائط ومدن.

منذ آلاف السنين وحتّى اليوم، كان انتشار الأوبئة والفيروسات سبباً مركزيّاً في تغيير شكل الحيّز الذي نعيش فيه، في تغيير جغرافيا تواجدنا، وفي رسم المدن التي نعرفها بصورتها اليوم. والعكس صحيح كذلك، مع كلّ ظهورٍ جديد لأيّ فيروس، يكون للأمكنة ولأسلوب الحياة فيها تأثيرٌ أساسيٌّ على انتشاره وعلى نتائجه.

سأسلّط الضوء في هذا المقال على علاقة الأوبئة بالحيّز المعيشيّ، وبالاكتظاظ السكّاني خصوصاً، لأطرح أسئلةً عن بلداتنا الفلسطينيّة المكتظّة ومخيّماتنا المتروكة على الهامش. في ظروف مختبريّة، قد لا تُميّز الفيروسات بين بني البشر، أما في ظروف المختبر البشريّ تحت الاستعمار، تحمل الفيروسات أذىّ بالغاً ومضاعفاً.

إنّ أهم ما ميّز التمدّن منذ عصور هو تركيز عدد أكبر من الناس حول المراكز الحَضَريّة التي وفّرت فرصاً جديدةً لساكنيها. يحصلُ أمران أساسيّان في هذا التركيز البشريّ؛ يضطرّ الفرد للاحتكاك بعددٍ أكبر من الناس، ممّا يزيد من سهولة انتشار الأمراض المُعدية. تدلّ أبحاثٌ كثيرةٌ على العلاقة الواضحة بين ارتفاع الكثافة السكّانية وانتشار الأوبئة.1انظر مثلاً: Li, Ruiqi, Peter Richmond, and Bertrand M. Roehner. "Effect of population density on epidemics." Physica A: Statistical Mechanics and its Applications 510 (2018): 713-724. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ وجود عدد كبير من السكّان في ذات المنطقة الجغرافيّة يعني زيادة عدد المعرّضين للأمراض التي يسبّبها تلوّث الهواء أو المياه أو الطعام أو غيرها في هذه المنطقة.

منذ التاريخ القديم ارتبطت مدنٌ كثيرة بالأوبئة، كطاعون أثينا (430 قبل الميلاد) الذي تسارع انتقاله في الأماكن المكتظّة. وكان معدّل الحياة في روما بين القرنين الأول والخامس أقلّ بـ25% من معدّل حياة سكّان الريف. يصف الأنثروبولوجيّ مارك ناثان كوهين سكّان المدن الأوروبيّة بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر بأنّهم "الأكثر عرضةً للإصابة بالأمراض والأقصر عمراً في تاريخ البشريّة".2Bollyky, Thomas. J. " The Future of Global Health Is Urban Health" Council on Foreign Relations. 31 Jan. 2019. Web. 24 Mar 2020. لم يتوقّف الأمر عند المدن القديمة، بل كانت المدن الصناعيّة في بدايات القرن التاسع عشر وحتّى القرن العشرين عرضةً كذلك للكثير من الأوبئة والأمراض؛ الكوليرا في نيويورك (1832) ولندن (1853)، والإنفلونزا الإسبانيّة في نيويورك والمكسيك (1918)، وأمراض كثيرة أخرى كالحصبة، والجدري، والسعال الديكي، والسلّ وغيرها. في العام 1900 مثلاً، كان معدّل عمر سكّان المدن أقلّ بـ10 سنوات من سكّان الريف في الولايات المتّحدة الأميركيّة.3Cain, Louis, and Sok Chul Hong. "Survival in 19th century cities: The larger the city, the smaller your chances." Explorations in Economic History 46.4 (2009): 450-463.

تنظيف أزقة مخيم الشاطئ في قطاع غزّة، ضمن جهود الوقاية من فيروس "كورونا". وكالة فرانس برس.

وباء يرسم مدينة

من المدن الصناعيّة وصولاً إلى المدن الحديثة التي نعرفها اليوم، استطاعت الأوبئة أن تفرض سياساتٍ وتغييراتٍ عميقةً على التخطيط الحضريّ والنظام الصحّي. لم تعد المدينة مربوطة بالضرورة بالموت؛ تقول الصحافيّة جين جاكوبس في كتابها "موت وحياة مدن أميركيّة كبرى" إنّ المدن كانت "الضحيّة الأكثر عجزاً ودماراً بسبب الأمراض، إلّا أنها تحوّلت إلى منتصرٍ كبيرٍ عليهم".

ازداد عدد سكّان المناطق الحضريّة كثيراً (56% من مجمل سكّان العالم) ولم تقلّ الكثافة السكّانيّة، إنّما استطاعت المدن المتطوّرة فرض تحسينات في البنى التحتيّة الفيزيائيّة والصحيّة للتغلّب على عامل الكثافة المميت في زمن الأوبئة.4Demographia World Urban Areas (15th Annual Edition: 2019 أدّى انتشار الكوليرا في لندن في منتصف القرن التاسع عشر مثلاً إلى بدء العمل على شبكات الصرف الصحّي ومهّد لتأسيس "مجلس الأشغال المتروبوليني" الذي نظّم تطوير البنى التحتيّة في متروبولين لندن. 

كذلك في نيويورك، فقد أدّى وباء الكوليرا إلى تشكيل "مجلس الصحّة المتروبوليني" الذي سنّ قوانين بناء (Zoning Codes) لضبط الاكتظاظ السكّاني في المناطق المختلفة. تطوّرت أيضاً قوانين بناء تفرض شروطاً صحيّةً كثيرة، كالتهوية، والإضاءة، والمساحات، وغيرها. كان للأوبئة التي اجتاحت المدن دورٌ فاعلٌ في المعايير التي نعرفها اليوم لبناء البيوت والمباني والشوارع والمتنزّهات- المعايير التي حدّدت شكل المدن الحديثة.

تطوّر تخطيطُ المدن ومعه أنظمة الصحّة العامّة ليخفّف من الأثر السلبيّ للاكتظاظ. لكنّ المدن العالميّة المتطوّرة تركت خلفها أكثر من ثلث سكّان المناطق الحضريّة يعيش في العشوائيّات، ناهيك عن الجزء الذي يعيش في مدنٍ غير متطوّرة بنيويّاً، أو في أحياء فقر في مدن متطوّرة. في كلّ هذه الأمكنة، بقي الاكتظاظ وتردّي البنى التحتيّة كما هو؛ أرضاً خصبة للأوبئة.5ذلك بحسب برنامج الأمم المتّحدة للمستوطنات البشريّة المعروف باسم "UN-Habitat". 

عام 2014 مثلاً، تفشّى وباء "إيبولا" في غرب أفريقيا. لم يكن التفشّي الأول للفيروس، إلّا أنه أصاب هذه المرّة عواصم 3 دولٍ، وهي مناطق مكتظّة وعشوائيّات، فأعلنت منظّمة الصحّة العالميّة حالة طوارئ صحيّة دوليّة. مات على أثر الوباء أكثر من 11 ألف مواطن من الدول الثلاث فقط.

اقرأ/ي المزيد: غزّة جاهزة لمواجهة "كورونا"؟

في وطن المخيّمات

لا داعي للإسهاب في شرح ما نعرفه عن الحيّز العمرانيّ الفلسطيني (في الضفة وغزّة والداخل والشتات)، وعن فقر البنى التحتيّة والاكتظاظ وتلوّث المياه (أو انعدامها) وانقطاع الكهرباء (أو انعدامها)، وعشوائيّة البناء، ونقص المرافق الصحيّة، والنسب العالية من الأمراض المسبقة وغيرها من أزمات تجعل حيّز سكن الفلسطينيّ أقرب صحيّاً إلى نماذج المدن القديمة، وأكثر عرضةً لانتشارٍ عنيفٍ للأوبئة. 

تكفي حقيقة أن حوالي مليون وسبعمئة ألف فلسطينيّ محصورون في 58 مخيّماً فقط لنفهم حجم المأساة. تعاني المخيّمات في فلسطين وفي الشتات من أزمة اكتظاظ لا إنسانيّة- قد تصل الكثافة السكّانية في بعض هذه المخيّمات إلى ما يزيد عن 50 ألف نسمة للكيلومتر المربّع الواحد (ضعفيّ الكثافة في مانهاتن نيويورك).

معدل الكثافة السكانية في مخيمات قطاع غزّة.

حدود المخيّمات لم تتوسّع، وبيوتها متلاصقة، كما أنّها مبنيّة بعشوائيّة وتفتقد للإضاءة والتهوية، تأوي عدداً كبيراً من الأفراد يتشاركون غرفاً ضيّقة، أو عدداً من العائلات يتشاركون منزلاً واحداً، عدا عن شبكات الصرف الصحّي السيّئة، والنسب العالية من الأمراض الأخرى في ظلّ جهازٍ صحيٍّ ضعيف (حسب الـ"أونروا" فإن معدّل الاستشارات الطبيّة اليوميّة يفوق الـ100 استشارة لكلّ طبيب في المخيّمات!).

اقرأ/ي المزيد: "مخيم شاتيلا أو مجزرة كلّ يوم".

أمّا غزّة التي يسكنها حوالي مليونيّ فلسطينيّ، غالبيتهم العظمى في المخيّمات، فهي أكثر بقاع العالم اكتظاظاً. وتعاني أصلاً من ظروف فوق الوصف. وفوق هذا كلّه فإنّها تواجه أزمة صحيّة جديدة أخرى مع انتشار مرض الحصبة مؤخّراً. زد على ذلك أن 97% من سكّان غزّة يشربون مياهاً ملوّثة، وقد حذّرت منظّمات عالميّة منذ سنين من خطر انتشار الأوبئة هناك.

الكثافة السكانية في قطاع غزة، حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.


الحرب ضدّ الأوبئة

تنقسم محاربة الأوبئة إلى شقّين: تجنّب الإصابة، والعلاج. في الأماكن المكتظّة التي تفتقر للبنى التحتيّة المتطوّرة، يكون تجنّب الإصابة أصعب بكثير. فيما يصبح الحجر الصحّي المتّبع تاريخيّاً والحفاظ على النظافة العامّة شبه مستحيليْن في ظلّ الاكتظاظ والظروف الفيزيائيّة والاقتصاديّة. بالتالي يكون التطعيم أو الأدوية هم الأكثر حظّاً  في القضاء على الأوبئة. وهنا تقع أزمتنا اليوم في حال انتشر الـ"كورونا" في بؤرنا السكنيّة المُكتظة، إذ أننا أمام فيروس جديد، لم يجد العلماء تطعيماً له بعد.

إن ما تتّبعه غالبيّة دول العالم اليوم هو سياسة "تسطيح المنحنى"، أي توزيع انتشار المرض على فترةٍ زمنيّةٍ أطول، كي لا يمرض الجميع فجأة فينهار الجهاز الصحيّ ويزداد عدد الموتى. لإنجاح هذه الطريقة لا بدّ من الحجر الصحيّ المطلق أو منع التواصل الاجتماعيّ. 

وهنا، حين نشاهد صور المدن العالميّة بشوارعها الشهيرة فارغة، علينا أن نتذكّر مأساة المخيّم وأن نفكّر بأزقّته "الخصبة" لانتشار الوباء. أين سينعزل الناس؟ في بيوت يتشارك فيها 7 أشخاص غرفةً ضيّقة؟ في بيوت تسكنها أكثر من عائلة؟ بدون تهوية؟ أو بدون مطبخ مستقل أو مرحاض؟ ناهيك عن المشكلة الاقتصاديّة في توقّف الناس عن العمل، وانعدام أي استقلاليّة وطنيّة تمكّن من إدارة هكذا أزمة وتوفير حاجات الناس، تحت حكم استعمارٍ يعادي الفلسطينيين، وأنظمة حكمٍ تُهمل اللاجئين إهمالاً منهجيّاً.    

في ظلّ الخوف من عدم القدرة على التغلّب على الوباء، يتراءى شبح الحلول التي قد تفرضها "إسرائيل" على بؤرنا السكنيّة. والتي قد بدأت أصلاً بتنفيذها، إذ قامت مؤخراً بفرض إغلاق تامّ لمناطق كاملة في الضفّة الغربيّة. أمّا العمّال الفلسطينيّون اللذين كانوا يتنقّلون يومياً ما بين الضفّة والداخل، فاضطرّوا إمّا لترك عملهم أو للمبيت في ورش البناء في العراء، ناهيك عن التنكيل بهم وتسريحهم إلى الحواجز إذا شكّ المشغّل الإسرائيليّ بأنهم قد يحملون الفيروس، كما حصل على حاجز بيت سيرا  وحاجز جبارة قبل أيام. إن "إسرائيل" التي تفرض طوقها الأمنيّ حول كلّ مناطق الضفّة وغزّة، لن تتردّد في تشديد الحصار لتحمي نفسها. وعبر التاريخ مارست العديد من الأنظمة في المناطق الموبوءة أشرس أنواع العزل والإبعاد؛ منها تلك التي رحّلت مجتمعاتٍ، ومنها التي سجنت المرضى في مناطق نائية، وغيرها الكثير. أما "إسرائيل" فإنّها، ودون وجود الأوبئة، تمارس كلّ سيناريوهات العنف ضدّ الفلسطينيّ، فماذا قد تفعل إن انضمّت مناطقنا إلى قائمة المناطق المنكوبة بالـ"كورونا"؟

اقرأ/ي المزيد: "عندما يُعامل عمّال الضفة كـ"الجراثيم"!"

عندما أصاب وباء الكوليرا مدينة لندن قام الطبيب جون سنو عام 1854 برسم خريطة للمدينة مشيراً إلى مكان سكن المصابين. فتبيّن بوضوح أن المرضى سكنوا قرب مضخّة مياه شربوا منها، فجاء الاستنتاج بأن المياه ملوّثة. في حينه شكّلت هذه الخريطة حدثاً هامّاً في الصحّة العامّة وعلم الوبائيّات. أصبح للمكان معنى أكبر في دراسة الأمراض وعلاجها.

خريطة الطبيب جون سنو تُحدد أماكن سكن المصابين بالكوليرا

أمّا في فلسطين، إن انتشر الوباء في "الثقوب السوداء" التي نعيش فيها مكتظّين- فغالباً لن تهزّ الخريطة أيّ نظام صحّة، بل سيرسم الإسرائيليّ خطّاً عريضاً حول هذه البؤر السكنيّة، ويسجنها كما بدأ يفعل. سيقطّع الجغرافيا أكثر فأكثر ويقطع معها ما تبقّى من هواء يتنفّسه الفلسطينيّ المحاصر. 

حكومات العالم كلّها تحضّر خططاً فوريّة وخططاً بعيدة الأمد لصدّ الأوبئة. وماذا نفعل نحن؟

نحن المقسّمون على عشرات الرقع الجغرافيّة وتحت أنظمة وأشكال حكم مختلفة، على الوباء أن يغيّرنا أيضاً. ربّما علينا أن نبدأ بالتفكير من أضيق بقعة نسكنها: كيف يمكننا أن نوفّر نظاماً اجتماعيّاً محليّاً مستداماً يبقينا أولاً أحياء إن أصابنا مرض، ثمّ يمكّن المزيد من الصمود تحت هذا الاحتلال.