6 مارس 2020

أوبئة ومحاجر صحيّة.. من ذاكرة فلسطين

أوبئة ومحاجر صحيّة.. من ذاكرة فلسطين

"ما بيجي من الغرب إشي بيسر القلب"، هكذا ردّد أهلُ مدن وقرى فلسطين في إحالةٍ لكلِّ ما كان يحمله البحرُ الأبيض المتوسط من آفاتٍ وأوبئة، وكذلك من مهاجرين إلى ساحل بلادهم. كانت السّفنُ الراسيةُ مصدراً للأمراض والأوبئة المعدية على مرّ التاريخ، وكان ذلك واحداً من أسباب تحامل أهل فلسطين على البحر وسكان ساحله.1سليم تماري، "الجبل ضد البحر"، مؤسسة مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، ص17. فالجدري، والتيفوس، والحصبة، والملاريا، والجذام، والكوليرا، والطاعون، كلّها أوبئةٌ عرفتها فلسطين على مراحل تاريخيّة مختلفة، وتحديداً في التاريخ الحديث، بالتزامن مع ازدياد وتيرة حركة الانتقال والغزو والهجرة. وقد دفع ذلك إلى أن تُقام في مدن السّاحل؛ عكا ويافا وحيفا، محاجر صحيّة. 

يعود تاريخ الحجر الصحيّ في فلسطين إلى تاريخ انتشار الأوبئة المعدية ذاتها، أي إلى مئات السنين، إلا أنّه اتخذ أشكالاً مختلفةً في ممارسته وتطبيقه، قبل أن يستقرّ على مفهومه الذي نعرفه اليوم، من حجزٍ وحبس "الكارنتينا" ضمن تطور سياسة التدخل للطب الوقائيّ، أي قبل أن يُصبح ممارسةً للـدولة بمعناها الحديث. 

كيف مارس الفلاحون الحجر "الصحيّ"؟

وفي ذاكرة فلسطين، كان الحجر الصحيّ يعني العزل والحبس أحياناً، والطرد والنفي أحياناً أخرى، عدا عن الحصار، وذلك عن طريق تحويل بلدة أو قرية بأكملها إلى محجرٍ محاصرٍ يُمنَعُ اقترابُ الناس أو خروجهم منه.

كما كان الحجر يعني الزرب –من زرائب الحيوانات- في المغاور والجيوب على أطراف المدن والقرى، فكنيسة الخضر أو القديس جورجيوس في قرية برقين قضاء جنين، أُقيمت على مغارةٍ قديمةٍ استخدمها أهلُ تلك المنطقة لحجر مرضى البُرص (الجذام). ويُقال إنّ المسيح عليه السّلام مَسَحَ على عشرة مرضى في تلك المغارة، وكان شفاؤهم من المرض واحدةً من معجزاته. لاحقاً، أقيمت الكنيسة في ذلك الموقع، وأُطلِقَ عليها أيضاً "كنيسة العشرة البرص"، بحسب حكاية نشأة المسيحية في بلادنا.2مقابلة مع القس معين جبور، كنيسة "القديس جورجيوس" بفلسطين تسعى للسياحة العالمية، موقع عربي21، الأحد  3 مايو 2015.

أيضاً، استخدم أهل البلاد الآبار وأتوان الكلس كمحاجر لعزل المرضى المصابين بالأوبئة فيها.3التون مكان يحفر على شكل بئر من أجل صناعة الكلس أو الشيد والأحجار الكلسية للبناء، وكثيراً ما تحولت تلك المواقع إلى قبورٍ جماعيّة، خصوصاً في حالة الأمراض المُعدية.

وقد كانت تلك الأمراض تحمل تُهماً اجتماعيّة، إذ كان التطبيب الشعبيّ التقليديّ ينظر للموبوء كملعونٍ ألّمَت به لعنةُ الله أو ممسوسٍ مسّه جنُّ أو شيطان، فيُترَك في تلك المحاجر إلى مصيره. وما زال من أهلنا من يتلّفظ إلى يومنا بقول: "حبك بُرص" في عبارةٍ يقصد منها السخرية من المُحب العاشق أو العاشقة، والتمني له أن يبتلى بمحبة أبرصٍ مجذوم، نظراً للتشويه الخلقيّ الذي يسببه مرض الجذام. 

وفي الجليل ما زالت بعضُ الزوايا الصوفيّة مشكولةٌ جدرانُها بالجنازير والأصفاد ومرابط الحديد التي كان يُصفَدُ بها المبروصون والمجدورون.4في زاوية الشيخ الروميّ في قرية عين ماهل في جليل فلسطين، ما زالت جدران الزاوية مثبوت فيها شناكل ومرابط الجنازير التي كانت تستخدم لعلاج المجذومين لطرد المس الشيطانيّ أو الجنّ منهم بحسب الاعتقاد الشعبيّ الصوفيّ آنذاك. كذلك، كان الحجر الصحيّ يقع في التكايا العثمانيّة، والتي كان يُطلق عليها تكايا التنابل أي الكسالى، فالمقيمون فيها لم يكونوا من الكسالى التنابل بالضرورة، إذ أقام فيها مرضى الجذام أيضاً. وأُقيمت أول تكية لرعاية المجذومين والحدّ من انتشار المرض في مدينة أدرنة التركيّة،  وذلك في عهد السلطان مراد الثاني.5انظر حسين جوكتشة وصالح كولن، السلاطين الأوائل – عصر تأسيس الدولة العثمانية- ، ص 264.

فضلاً عن ذلك، وقبل الفترة العثمانيّة، كانت أديرةُ الكنائس في فلسطين بمثابة مواقع للحجر الصحيّ، إذ تطوّع الرهبان والآثمون فيها لرعاية الموبوئين بالطاعون والجدري من أجل التكفير عن ذنوبهم. وقد ارتبطت محاجرُ الأديرةِ الصحيّة بالغزو الصليبيّ للبلاد، إذ أقامت فرقةُ الإسبتارية الصليبية عام 1130م هيئةً استشفائية خارج سور القدس، في الركن الشماليّ الشرقيّ للمدينة على الطريق المؤدي إلى جبل الزيتون، فكانت على شكل محجرٍ صحيٍّ للمجذومين من فرسان الفرقة وأعضائها.

وبعد فتح مدينة القدس وتحريرها عام 1187م على يد صلاح الدين الأيوبيّ، نُقِلَ حجرُ المجذومين الصليبيّ إلى مدينة عكا.6راجع، محمد فوزي رحيل، الفرسان المجذومون – حين يكون المرض سلاحا – المجلة العربية، دار المجلة العربية للنشر والترجمة، العدد 522 1 مارس 2020. وتأثراً بذلك، بقي سكانُ مدن وأريافِ فلسطين حتى فترةٍ متأخرةٍ من القرن الماضي، يُطلِقون على المشافي تسمية "الاسبتار" أو "الاسبطار"، نسبةً لفرقة الإسبتارية الصليبية التي ارتبط المشفى كحجرٍ صحيٍّ باسمها.

وبعيداً عن الكنائس والتكايا، اتخذ البعض، وخاصّة من المجذومين، الأنهار وضفافها ملاذاً لهم. وكان أبرزها نهر الأردن لقداستهِ الدينيّة لدى مسيحييّ فلسطين، فقصده المرضى من السّكان المحليّين والحجاج الوافدين، وأقاموا على ضفافه بغرض الاستشفاء بمائه المقدّس.7المرجع السابق.

وفي الثقافة الشعبيّة كذلك، وفي إطار محاولة الوقاية قبل العلاج، كان من تقاليد الفلاحين في فلسطين تربية طيور الحمام داخل طاقات جدران بيوتهم، في اعتقادٍ بأنّ أعشاش الحمام تُنجي البيوت من الطاعون.8اعتقاد شائع لدى فلاحي فلسطين، كما أشار الباحث شلدون واتس إلى ذلك في كتابه، الأوبئة والتاريخ – المرض والقوة الامبريالية. ترجمة : أحمد عبد الجواد، المركز القومي للترجمة، مصر 2010 . ص 76.

 

مرضى مصابون بالجذام على أعتاب القدس. مكتبة الكونغرس الأميركي، حوالي عام 1900

سياسة التدخل الوقائي 

تعود جذور "سياسة التدخل" في الطب الوقائي الحديث من الأمراض المُعدية، إلى حملة نابليون بونابرت على مصر وبلاد الشام. عام 1799، وفي يافا التي احتلها نابليون، أَلَمَّت بالمدينة جائحةُ الطاعون، وفتكت بأكثر من ثلث سكان المدينة.9راجع حسن إبراهيم سعيد، يافا من الغزو النابليوني إلى حملة إبراهيم باشا، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص 19. بدأ الطاعون في أوساط الجنود الفرنسيّين، وبعد المجازر الجماعيّة بحقّ أهل المدينة، والتأخر في دفن القتلى، تفشى الوباء في الجيش، ثمّ انتشرَ في أرجاء المدينة، ولم يسلم منه أيٌّ من بيوتها، فكان يموتُ في اليوم الواحد نحو ثلاثين شخصاً. دفع ذلك، المستعمرَ الجديد- نابليون، إلى إنشاءِ مستشفيين في المدينة، واحد منهما كان للحجر الصحيّ أقامه في الدير الأرمنيّ في المدينة بغرض علاج الجنود المطعونين. وقد أرغم نابليون مسيحيي المدينة من اللاتين العرب والأرمن على العمل في رعاية المرضى في محجر الدير، مما حدا بكثيرين منهم إلى الفرار من يافا.10المرجع السابق.

ومع الغزو المصريّ لبلاد الشام، بدأت سياسة التدخل الوقائي من المرض المُعدي تَـثبُتُ بشكلٍ مُمَنهجٍ. إذ سبق والي مصر محمد علي باشا الدولةَ العثمانيّةَ إلى إقامةِ المحاجر الصحيّة. على أثر الملاريا التي انتشرت في مدينة عكا عام 1835، والتي كادت تفتك بابراهيم باشا نفسه، أقام المصريّون مستشفياتٍ عسكريّةٍ في كلٍّ من عكا وشفاعمرو وترشيحا وغزة، تضمّنت محاجر صحيّة بغرض معالجةِ الجنود المصريّين الموبوئين بالملاريا والكوليرا11راجع : خالد محمد صافي، الحكم المصري في فلسطين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص 217.. غير أن المحجر الصحيّ الأساس الذي طُبِقت فيه قواعد الحجر الصارمة، أنشأه إبراهيم باشا في بيروت عام 1834، حيث أُرغِمَت السفنُ الراسيةُ وركابُها في ميناء بيروت على البقاء فيه بين 10- 12 يوماً قبل دخول المدينة.12شلدون واتس، الأوبئة والتاريخ، المرض والقوة الإمبريالية – ص 129.


المحاجر لرجال الباشا

كانت المحاجر المصريّة في فلسطين مخصصةً بالدرجة الأولى لمعالجة جنود الباشا، وليس سكان البلاد. أما التعامل مع المرضى المحليين كان يتضمن العزل الجماعيّ لمناطق توطن الوباء. على سبيل المثال، حين عَلِمَ ناظرُ الصحة في مدينة يافا، وهو موظفٌ مصريٌّ بوجود وباءٍ آخذٍ في الانتشار في قرية دير حنا بين صفد وعكا، أرسل طبيباً خاصّاً لتفحص الأمر. وعندما تيّقن من وجود "الهوا الأصفر"- الكوليرا، عُزِلت القرية، حتى فتك المرضُ بكثيرين من أبنائها13خالد محمد صافي، الحكم المصري في فلسطين، ص 218.. كما اعتمد المصريون في فلسطين سياسة قطع خطوط المواصلات، حين كانت تنتشر الأوبئة المعدية في إحدى المدن، مثلما حدث بين مايو/أيار ويوليو/تموز 1838 حين قُطعت الطريق بين يافا والقدس.

في عام 1835 منح والي مصر محمد علي اليهود والمسيحيين –اليونان والأرمن- إذناً بإقامة محاجر صحيّة في مدينة يافا لاستقبال الحجاج، فبعد إقامة محجر بيروت عانت يافا من قلة الحجاج الوافدين إليها مما أضرّ باقتصاد المدينة. وكان مما قاله إبراهيم باشا في موافقته على طلبهم: "سأوافق على طلبكم، وأسمح لكم بإقامة محاجر في يافا بدلاً من حيفا، لكن ستكونون مسؤولين إذا ما انتقل وباء إلى القدس... أنا غير معني بالناس الآخرين، لكن يجب أن أفكر بجنودي الذين أفضل أن أراهم يموتون في المعارك على أن يموتوا بالطاعون الرهيب".14 المرجع السابق.

تحوّلت بعد ذلك مدينة يافا إلى مركزٍ للحجر الصحيّ، فازديادُ حركة الوفود إلى مينائها من حجيجٍ وتجارٍ ومهاجرين خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، جعل أهلها وسائر سكان المدن والأرياف في وضع توجّس وتحوّط من الأمراض والأوبئة التي قد يحملها القادمون. 

مجموعة من الرجال المصابين بالجذام في أحد شوارع القدس، أوائل القرن العشرين. مكتبة الكونغرس الأميركي.

الوافدون في زمن الكوليرا

تذكر ماري روجرز في رحلتها من ميناء مارسيليا إلى الإسكندرية، ومن ثم إلى فلسطين، عام 1855، يوم أنْ وصلت وهي على متن سفينة "إيجبتوس" إلى شواطئ يافا، وكان في استقبالهم قبل وصولهم الميناء قاربُ الحجر الصحيّ، وعلى متنهِ رجلُ أمنٍ وموظفٌ للحجر الصحيّ في المدينة، حيث قدم لهم موظفُ المحجر غصناً من شجرة برتقال يزهو بأوراقه وحبات برتقاله، في إشارةٍ من الموظف يأمل فيها سلامة السفينة وركابها القادمين من الوباء المعدي، وقد كانت جائحة الكوليرا حينها تجتاح مصر وسواحل بر الشام.15ماري إليزا روجرز، الحياة في بيوت فلسطين، ترجمة: جمال أبو غيدا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 27.

وتصف روجرز بالتفصيل كيف قام موظفو الحجر الصحيّ بإنزالهم من السفينة على متن قوارب الحجر، ومن ثم حملها فوق ذراعي الموظف وتسليمها لموظف آخر على رمل الشاطئ، ومنها إلى المحجر داخل المدينة في جو مثقل بالحيطة والتحرز للتأكد من سلامة الوافدين. ثم تُسهب روجرز في وصف المحجر الواقع في مبنى مخصص بناؤه للحجر الصحيّ خلف الميناء مباشرة. وتصفُ الدرج المؤدي إلى الطوابق الأرضيّة تحت الأرض حيث غرف الحجر، وتستذكر حجارة جدرانه السميكة المطلية بالأبيض، واكتظاظ غرف الحجر بالموبوئين بالكوليرا، وحركة الأطباء الدائمة.16المرجع السابق، ص 28.

وبعد أن أُخلي سبيل ماري روجرز ومرافقيها، ودخولهم أحياء وأزقة يافا، تبيّن لهم حجم الهلع الذي كان يعيشه أهل المدينة بسبب الكوليرا، إلى حدِّ تداولِهم العملة المصريّة المعدنية عبر وضعها وتبادلها في أكواب الماء من شدة الحيطة والفزع. 

كانت تلك أياماً من زمن "الهوا الأصفر" التي بقي أهل يافا وسائر مدن وريف ساحل فلسطين يحفظونها في ذاكرتهم، دون الحديث عنها أو تدوينها، فليس من عادة الناس تدوين أمراضهم وجوعهم.