1 أكتوبر 2020

"لجنة أور".. المؤسسة الاستعماريّة لحفظ الشرذمة

"لجنة أور".. المؤسسة الاستعماريّة لحفظ الشرذمة

لا نعرف لحظةً تاريخيّةً وحّدت الفلسطينيّين بعد النّكبة مثلما وحّدهم انطلاقُ الانتفاضة الثانية. شهدنا أحداثاً اتجهت إليها عيونُ كلّ الفلسطينيين، أو مراحل اشتدّت بها أشكال متفاوتة من النضال في مواقع مختلفة بالتزامن. إلا أنّنا لم نرَ منذ النكبة تلاشياً تامّاً للفوارق بين فلسطينيي 48 و67، مثلما شهدناه في الشهر الأوّل من الانتفاضة.

اختلط الدمُّ بلا مجاز. سقط ابن غزّة في الداخل، وجُرح أبناء الداخل في حواري القدس. لم يعد التفريق بين صور الضفّة والمثلّث ممكناً. وحّد المجرمون أعيرةَ الرصاص. وصلاة الأمهات- اللواتي أكّدن بأنّ أولادهنّ قاتلوا بشجاعةٍ وتمنّوا الشهادة- رُفعت إلى السماء على دخان الإطارات المشتعلة التي سوّدت وجه "الخط الأخضر". سنوات من الشرذمة الإسرائيليّة المنهجيّة تعطّلت لأسابيع متواصلة.

بعد 20 عاماً، يتوجّب سؤالٌ واحد: كيف انتهى هذا الحدث الجامع إلى أعمق تمزّق عرفه تاريخ الشعب الفلسطينيّ؛ من الانقطاع الاجتماعيّ والسياسيّ شبه التام بين الضفّة وغزّة، وتفشّي أضخم مشاريع الأسرلة في المجتمع المقدسيّ، ومبادرة غير مسبوقة من فئات سياسيّة واجتماعيّة من فلسطينيي الداخل للاندماج في المؤسسات الاستعماريّة؟   

لا تحتاج الإجابة بالعموم لقدرات تحليليّة فذّة، إنّما تتطلّب قراءة الواقع الذي عشناه في العقدين الأخيرين على ضوء معرفة ولو أساسيّة بالاستراتيجيّات التقليديّة التي اتّبعها الاستعمار أينما حلّ. مع هذا، يرفض الكثيرون ملاحظة هذا التطابق على سهولته، إذ يتطلّب رغبةً غائبةً بالمكاشفة، وإرادة سياسيّة مغيّبة بالخروج من مستنقع الشرذمة.  

الادعاء باختصار

تركّز هذه السطور على المسار الذي شهدناه داخل الأراضي المحتلّة عام 1948، من لحظة الانتفاض الوحدويّ إلى واقع المطالبة بالاندماج في المؤسسات الإسرائيليّة. والسؤال الأساسيّ: كيف رمّمت "إسرائيل" خضوعَنا في الداخل بعد الانتفاضة؟

يستند هذا المقال إلى بديهيّة: جوهر الفعل الاستعماري الصهيونيّ هو تمزيق الشعب الفلسطيني اجتماعيّاً وبالتالي سياسيّاً. لتحقيق ذلك، اتُبع نموذج إداريّ قانونيّ خاص بكل منطقة جغرافيّة، واختلفت منظومات السيطرة فيما بينها في: أولاً، مدى ومباشرة وفجاجة وخشونة العنف أو تركيبه (المُسمّى "نعومته")؛ وثانياً في مستوى "الامتيازات" الممنوحة لكلّ منطقة أو شريحةٍ اجتماعيّة؛ وثالثاً، في تصميم حدود مختلفة للعمل السياسيّ، وهو ما يُنتج أشكالاً مختلفةً من النضال الفلسطينيّ في كلّ منطقة، ودرجات متفاوتة من التضحية الفرديّة والجماعيّة.

فرضت الوحدة النضاليّة في أوّل أيّام الانتفاضة واقعاً ميدانيّاً مفاجئاً هزّ منظومة التقسيم الإسرائيليّة، وخلخل توازنها أمنيّاً وسياسيّاً. إذ لم تكن وحدويّة معنويّة أو نظريّة، إنما كانت فعلاً ماديّاً على الأرض، خلق كمّاً هائلاً من نقاط الاشتباك المتزامنة وغير المتوقّعة، صدمت الأمن واستنزفته. أعطب هذا الضغط منظومة العنف المركّبة دقيقة التصميم بما فيها من وسائل مخابراتيّة خبيثة وتكتيكات وأسلحة قمع "ناعمة". وأعاد العدوَّ إلى وحشيّته البدائيّة، وكشف جوهره الدمويّ. 

شرطي إسرائيليّ يُصوّب بندقيته باتجاه المتظاهرين الفلسطينيّين في مدينة الناصرة، الأول أكتوبر/تشرين الأول 2000. AP

لكنّ الرصاص وحده لم يكن كافياً لوأد هذه الانتفاضة. احتاجت "إسرائيل" إلى عمليّة أعمق لإعادة تمكين منظومة التقسيم وتتألّف هذه العمليّة من الآتية، والتي ستُفصّل لاحقاً: (1) إعادة صياغة الماضي. إعادة صياغة صورة الحدث الذي شهدناه، محو الطابع الوحدويّ الذي ميّز الانتفاض والجريمة، وإعادة كتابة الأحداث بأثرٍ رجعيّ ليس ضمن الجامع الفلسطينيّ، إنما في إطار المواطنة الإسرائيليّة. وانطبقت إعادة الصياغة هذه على (أ) أسباب الانتفاض و-(ب) وسرد الجريمة. و- (2) رسم مستقبل التقسيم. اعتمدت "إسرائيل" توصيات لترميم وتجذير منظومة التقسيم بعد الردع الدمويّ. وذلك بالأساس من خلال "جزرة" الامتيازات التي من شأنها أن ترفع فلسطينيي الداخل مرتبةً فوق إخوانهم في الضفّة الغربيّة وغزّة.

نفّذت "إسرائيل" هذه العمليّة المركّبة من خلال جهاز لعب دوراً تاريخيّاً هامّاً، متستّراً في مظهر لجنة تحقيق: لجنة "أور" - "لجنة التحقيق الرسميّة لفحص الصدامات بين قوى الأمن وبين مواطنين إسرائيليين في أكتوبر 2000".

الطريق إلى اللجنة

يوم 28 سبتمبر/أيلول 2000، تصدّى مصلّون وقيادات من فلسطينيي الداخل لشارون ساعة اقتحامه الأقصى. وبدأت تحرّكات في قرى الجليل والمثلّث من ظهر ذلك اليوم، محدودةً كما في كلّ فلسطين. في اليوم التالي تواجد المئات من فلسطينيي الداخل أيضاً، حين ارتقى 7 شهداء على أرض الحرم، ولم يفرّق الرصاص يومها بين ألوان بطاقات هويّة المدافعين.

في يوم 30 سبتمبر/أيلول أيضاً، الذي أعلنته الفصائل إضراباً عامّاً، شهد الجليل والمثلّث مظاهرات وقطع للطرق ومواجهات، يُذكر منها مثلاً مهاجمة مركز الشرطة في الناصرة. في مساء ذلك اليوم، خاصةً بعد أن بثّت الفضائيّات صور استشهاد محمّد الدرّة، بات واضحاً لكلّ عاقلٍ أن نار القرى والمدن الفلسطينيّة، ومنها الداخل دون شك، لن تنطفئ. لا يُمكن الإشارة في الأسبوع الأوّل للأحداث إلى أي فارقٍ موضوعيّ جذريّ يميّز بين الداخل والضفّة.

لكن "إسرائيل" سحقت الانتفاضة في الداخل خلال شهرٍ تقريباً. إلى جانب الشهداء، أُصيب المئات، وسُجن مئات آخرون. واستُخدم الضغط الاقتصاديّ أيضاً، فتقلّصت وانقطعت أحياناً الخدمات والمنتجات الحيويّة، وشهدنا موجات من فصل العمّال. نشطت المخابرات بشكلٍ غير مسبوق أيضاً، والخفيّ في هذا المجال أعظم من الظاهر. أَرْخَت الصدمةُ ثقلها، ونجح الإرهاب الإسرائيليّ بردع الناس. هنا بدأ يظهر تراجعٌ متفاوتٌ بين القوى السياسيّة، وبدأ الإعلام التجاريّ (مثل صحيفة الصنّارة والعين وغيرهم) يلعب دوراً في بث الخطاب الإسرائيليّ بين الناس. وكانت هذه مرحلةً أولى، أسست لسلخ مظاهرات الداخل عن الانتفاضة.

مواجهات بين شبان فلسطينيّين وقوات الاحتلال في مدينة أم الفحم. أكتوبر/تشرين الأول 2000.

لا مجال هنا للتوسّع في التفاصيل المذهلة للديناميكيّة الخطابيّة والسياسيّة الفلسطينيّة التي تطوّرت وصولاً إلى 8 نوفمبر/تشرين الثاني، حين عُيّنت لجنة التحقيق الإسرائيليّة برئاسة القاضي ثيودور أور. تواصلت جلسات اللجنة الصاخبة، وتمحور العمل الإعلاميّ والسياسيّ في الداخل حولها، وصولاً إلى تقريرها الذي يحتوي آلاف الصفحات في سبتمبر/أيلول 2003. وكانت هذه اللجنة مفترق الطرق الأساسيّ في صياغة الرواية الـ"عرب-إسرائيليّة" لأحداث الانتفاضة في الداخل.

كان التعاون مع هذه اللجنة خطيئة كبرى التي ارتكبتها القيادة السياسيّة والحقوقيّة في الداخل، وكذلك تبنّي تقريرها لاحقاً؛ خطيئة يُمكن وصفها بما يلا يقل عن "أوسلو" الخاص بفلسطينيي الداخل.1رحبّت لجنة المتابعة العليا بلجنة التحقيق، وأدلى قادة سياسيون بشهاداتهم أمامها، وساندت جمعيات حقوقية الجهود لتقديم أدلة وشهادات للجنة.

غاية اللجنة

هدفت لجنة أور حقيقةً إلى "علاج" حالة الوحدة الفلسطينيّة، من خلال ترميم نموذج الفصل الاستعماريّ الذي تصدّع.

يبرز ذلك في بداية ملخّص تقرير اللجنة، الذي يُقر بتاريخيّة هذه الوحدة، ويفصّل إشكاليّتها بالنسبة للاستعمار: "توحّدت الاضطرابات [في الداخل] مع اضطرابات قاسية في مناطق يهودا والسامرة وقطاع غزّة، وصدرت أصوات غير قليلة بين ممثلي الجمهور (...) تشير إلى أن هذه الوحدة ليست مصادفة وتعكس علاقات تبادليّة بين الفلسطينيين من جانبيّ الخط الأخضر. اندماج هاذين المجتمعين خلال الأحداث غير مسبوق. على ضوء كافّة هذه الجوانب، تم استيعاب الأحداث باعتبارها "انتفاضة" تتعدّى في طابعها أحداث إخلال محليّ بالنظام." في موضعٍ آخر، عدّت اللجنة من بين مسبّبات الصدام الذي تعالجه: "تشوّش الخط الذي يميّز بين الفلسطينيين في مناطق يهودا والسامر وغزّة، وبين العرب مواطني الدولة".

فقرة أخرى في توصيات اللجنة تحسم هذه النقطة: "... شوّشوا، وأحيانا محوا، ما يفصل بين مواطني الدولة العرب ونضالهم الشرعيّ للحقوق داخلها، وبين النضال المسلّح ضد الدولة، الذي تخوضه منظّمات وأشخاص في مناطق يهودا والسامرة وغزّة. عرضت قيادات الوسط العربيّ هذين النضالين أكثر من مرّة باعتبارهما نضالاً واحداً ضدّ خصمٍ، أو عدوٍ، واحدٍ. مفهوم المواطنة، بمعناه الجوهريّ، لا يتوافق مع وصف الدولة عدوّاً. (...) على قيادة عرب إسرائيل ألا تشوّش الحدود بين العلاقة [مع الفلسطينيين] وبين أفعال ومضامين لا تتفق مع الولاء اتجاه الدولة، الواجب على كل مواطن في كل دولة".

(1) إعادة صياغة الماضي

(أ) أسباب الانتفاض

إحدى المؤشّرات على الدور الجذريّ الذي لعبته اللجنة يكمن في تعمّدها ربط التحقيقات والتوصيات بسردٍ كاملٍ لتاريخ فلسطينيي الداخل منذ النكبة. لم تكتف اللجنة بتحقيقٍ بأحداث القتل ولا بإدارة الأزمة، بل تحوّلت إلى تحقيقٍ كليّ بالدوافع الاجتماعيّة والنفسيّة للأحداث. وتبدأ الإشكاليّة هنا في أنّ اللجنة تعاملت مع خروج الفلسطينيين إلى الشوارع كمشكلة قائمة بحدّ ذاتها، تتطلّب تحقيقاً، تماماً مثل "مشكلة" القمع الدمويّ.

بحثت اللجنة، وأسّست تقريرها كلّه، على ما سمّته "الخلفيّة والمسبّبات" للأحداث. وهو عملياً سرد تاريخيّ لقصّة فلسطينيي الداخل. ما يميّز هذا السرد أنّه يتأسس على بديهيّة لا مجال لزحزحتها بنظر الإسرائيليّ: أنّ فلسطينيي الداخل ليسوا جزءاً عضويّاً من الشعب الفلسطينيّ، وألّا مجال للتفكير أصلاً بوحدة طموحاتهم السياسيّة.

المُلفت أكثر من ذلك في هذا الجزء من التقرير أنّه يمارس الوظيفة الاستعماريّة في تحويل المستعمَرين إلى مواضيع عديمة الإرادة، غير قادرة على التعبير عن إرادتها من خلال العمل السياسيّ. وتُصبح الشعارات والمواقف والآراء التي يطرحها عشرات الآلاف في الشوارع، يدافعون عنها ويموتون من أجلها، مجرّد عوارض لأزمة أعمق في علاقتهم مع السلطة/الأب. وفي هذه اللحظة يتحوّل المستعمِر إلى ما يشبه التحليل النفسيّ لدوافع "الفعلة" التي ارتكبتها هذه الشخصية.

خلال مسيرة لإحياء ذكرى شهداء الانتفاضة في الداخل، سخنين، 2011،Getty Images

بهذه الكلمات، مثلاً، يبدأ التقرير: "الهدف من هذا الفصل الإشارة إلى مواضيع ومشاكل ظهرت خلال السنوات في حياة العرب مواطني إسرائيل، وعلاقتهم مع اليهود ومؤسسات الدولة، والتي أدّت إلى فوران (...) ويُمكنها أن تفسّر إلى حدٍ معقول الحالات المزاجيّة التي سادت..."

في البند الثاني تتعامل اللجنة مع تعريف فلسطينيي الداخل. تقرّر اللجنة ألّا تعرّفنا كفلسطينيين، وتعتبره مجرد تعريفٍ ضمن "تفضيلات" و- "ميول وآراء" شخصيّة مختلفة، كأن لا حقيقة تاريخيّة موضوعيّة لانتماء هذه المجموعة. والأهم، كأن عشرات الآلاف لم يخرجوا للشوارع ويرفعوا الأعلام الفلسطينيّة ويجاهروا بهويّتهم الفلسطينيّة. أما في البند الثالث فتؤكّد اللجنة على أن أساس "الإشكاليّات والصعوبات التي تواجه الوسط العربيّ" هو أنّه "أقليّة مختلفة عن مجتمع الأغلبيّة".

اقرأ/ي المزيد: "المثلث إلى الضفة؟ هكذا وقعنا في مصيدة "إسرائيل"".

من هذه النقطة، توظّف اللجنة الجزء الأكبر من السرد التاريخيّ للوقوف عن الأوضاع المعيشيّة وأزمات الفقر والشغل والتعليم والسكن كمُسبب باطنيّ للاحتجاج. وسط نفي هذه القضايا (الهامّة طبعاً) عن ظرفها الاستعماري الذي يخلق ظروفاً مشابهة تماماً في كلّ فلسطين، كما التجاهل شبه التام لمسألة المسجد الأقصى التي أخرجت الناس إلى الشوارع فعليّاً. بهذه الطريقة، يؤسس التقرير دوافع مطلبيّة مدنيّة للحدث. تختفي فلسطينيّتنا، بمعنى الارتباط السياسيّ والسعي الطبيعيّ لتوحيد الطموحات السياسيّة، تماماً. ولا تظهر في سياق الأزمات الاجتماعيّة، إلا بشكلٍ عابرٍ، في فقرةٍ عن تعليم الأدب والتاريخ. وفي الفقرات اللاحقة، يُصبح الانتماء السياسيّ للنضال الفلسطينيّ الجامع مرادفاً لما تسمّيه اللجنة "تصاعداً رديكالياً".

(ب) سرد الجريمة

في الفصول التالية، تدخل اللجنة في أدق تفاصيل الحدث الأمنيّ والسياسيّ. تعرض القتل والقمع الوحشيّ باعتباره مشكلة إداريّة ومعنويّة في تعامل جهاز الشرطة، وفشلاً في القمع "الناعم" للاحتجاجات. الإغراق في تفاصيل الحالة الأمنيّة يرسم صورةً تاريخيّةً مختلفة عن الحقيقة التي شهدناها: شنّت جميع الأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة هجوماً دمويّاً على فلسطينيين عُزل في كافة أنحاء الوطن. تعامل الجهاز الأمنيّ في الداخل لم يكن لا غريباً ولا مختلفاً عن تعامل كافّة الأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة التي فعلت جرائم أكثر ترويعاً، مثل قتل محمّد الدرّة أو قتل المصلّين في حرم المسجد.

الجريمة، إذن، نفسها. لكنّ الرواية الإسرائيليّة هنا تُعيد تقسيم الجريمة من خلال التحقيق. وتُحدد بهذا أي دمٍ يستحق التمحيص العلنيّ ومجهر القانون وآلاف الصفحات والموارد. فنتيجة التحقيق لم تُفض إلى أي محاكمةٍ أو عدالة، لكنّها أكسبت فلسطينيي الداخل امتيازهم الوحيد عن الضفّة وغزّة: أن دمهم يستحقّ لجنة تحقيق.

اقرأ/ي المزيد: "حُذف من التاريخ: فلسطينيو الداخل والمقاومة المسلحة".

أحد أعمدة نموذج التقسيم الذي تخلخل في أكتوبر هو التمييز بين مناطق وشرائح مختلفة من الشعب في مدى مباشرة القوّة المستخدمة ضدّهم أو تركيبها. وقد تصدّع هذا العامود تحت الضغط الميدانيّ التي فرضته وحدة الانتفاضة. نرى لذلك أن أجزاء طويلة من تقرير لجنة أور تناقش وسائل تفريق المظاهرات. وجود وعدم وجود هذه الوسائل، ضرورة وعدم ضرورة استخدام الرصاص الحي، مدى الالتزام بقواعد إطلاق النار، والحاجة لاستخدام القنّاصة من عدمها. هذه أسئلة لا يسألها الإسرائيليّون في جرائم الضفّة الغربيّة. إنّ طرحها في هذا السياق ليس إجراءً شكليّاً قضائياً، ولا مجرّد مظهر ديمقراطيّ لحفظ صورة "إسرائيل": إنها منظومة رقابة للتأكّد من إدارة القوّة الناعمة، كامتيازٍ وأداة للتقسيم.

(2) رسم مستقبل التقسيم

"على الدولة أن تعمل لمحو وصمة التمييز ضد المواطنين العرب. عملياً، لا نقاش حول الضرورة الماسّة في تحقيق هذا الهدف. الجهات الأمنيّة أيضاً، ومن ضمنها جهاز الأمن العام [الشاباك]، تشدّد ليل نهار على أهميّة هذا الهدف. على الدولة أن تبادر وتطوّر وتشغّل برامج لسدّ الفجوات، بالتشديد على الميزانيّات، التربية، الإسكان، التطوير الصناعي، الشغل والخدمات".

تستهل هذه الفقرة، المركزيّة في ملخّص التقرير، سلسلةً من التوصيات المتعلّقة في تلبية الحاجات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي رأت بها اللجنة مُسبباً للأحداث. بعد أن تبنّت المحكمة العليا والحكومة الإسرائيليّة قرار اللجنة، وتبدّدت أوهام محاسبة المسؤولين عن قتل 13 شهيداً، لم يبق من تقرير اللجنة إلا توصيات "سدّ الفجوات" الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وصار التقرير يُعتبر إثباتاً واعترافاً إسرائيليّاً رسمياً (اعتبره البعض تاريخياً) بتمييزهاّ ضد "مواطنيها" الفلسطينيين. هلّلوا وكبّروا للإنجاز العظيم!

منذ صدوره وحتّى يومنا هذا، يرسم التقرير الملامح الأساسيّة لسياسات الحكومة الإسرائيليّة اتجاه فلسطينيي الداخل. تبنّت الحكومة توصيات اللجنة، وشكّلت لجنة حكوميّة خاصّة لتطبيقها، وشُكلت لجان برلمانيّة لمراقبة تطبيقها. ووضعت على أساسه مخطّطات عديدة "لتطوير الوسط العربي" وأيضاً لدمج الفلسطينيين بمؤسسات الحكومة. 

اجتماع بين أعضاء "القائمة المشتركة" وممثلي السلطات المحلية مع رئيس حكومة الاحتلال في مكتبه عام 2015. إحدى نتائج هذا الاجتماع تخصيص 150 مليون شيكل لإقامة مراكز شرطة في البلدات العربيّة "لتعزيز الأمن الشخصي".

كذلك، تحوّل التقرير إلى المرجع المركزيّ للعمل السياسيّ والحقوقيّ لفلسطينيي الداخل؛ يُستخدم كإثبات للتمييز العنصريّ، والمطالبة الحثيثة لتنفيذ توصياته. ارتكزت عشرات الالتماسات المطلبيّة للمؤسسات الحقوقيّة على تقرير أور، كما الأبحاث والتقارير التي ترصد أحوال فلسطينيي الداخل، وخطابات ومشاريع قانون قدّمتها الأحزاب العربيّة في الكنيست، علاوةً على اقتباس التقرير والتذكير به مراراً وتكراراً في الإعلام. حتّى أنّ مؤسسة حقوقيّة افتتحت مشروعاً خاصّاً لمراقبة تطبيق التوصيات.

عمليّاً، أفسح تقرير اللجنة أرضيّة لرقصة التانغو بين الحكومة الإسرائيليّة والقيادة السياسيّة والحقوقيّة لفلسطينيي الداخل، رقصة "سد الفجوات" و-"وقف التمييز" كما عبّرت عنه لجنة أور. بلغت هذه العلاقة أوجها في الخطة الخمسيّة 922 التي احتفلت بها "القائمة المشتركة" واعتبرتها إنجازاً عظيماً.2الخطة الخمسيّة 922:هي خطّة خمسيّة شاملة "للتطوير الاقتصادي في مناطق الأقليّات" وضعتها حكومة نتنياهو عام 2016 بتنسيق مع "القائمة المشتركة". تتضمّن الخطّة إسقاطات عمرانيّة وسياسيّة واجتماعيّة خطيرة، إذ تقايض الميزانيّات بافتتاح مراكز للشرطة في القرى والمدن العربيّة، تنفيذ أوامر هدمٍ وجوانب أخرى كثيرة. وهي التي تسعى صراحةً، مثلاً، إلى تجنيد "300 شرطي مسلم" للأمن الإسرائيليّ، وغيرها من الكوارث الأكثر عمقاً، تحت غطاء "التطوير الاقتصادي". كذلك افتُتحت "سلطة التطوير الاقتصاديّ" في العام 2007، ضمن مكتب رئيس الحكومة. وهذه تطوّر مبادرات واستثمارات العرب في "إسرائيل"، وتشجّع الاندماج في سوق العمل الإسرائيليّ. كما يتأسس عليها توجيه واسع للطلبة الفلسطينيين، من خلال المنح ومؤسسات التوجيه المهنيّ، للابتعاد عن العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، والتخصّص في المجالات الهندسيّة المطلوبة في سوق العمل الإسرائيليّ. كل هذا، بهدف توطيد تعلّق فلسطينيي الداخل بـ"إسرائيل"، وتجذير التقسيم الاجتماعيّ السياسي للشعب الفلسطينيّ.

حين يُطالب المُستعمَر بشرذمته

في العام 1976، الذي اندلعت فيه انتفاضة يوم الأرض، قُدّم للحكومة الإسرائيليّة تقريرٌ سريٌّ في حينه يُعرف باسم "وثيقة كنيغ". هدفت هذه الوثيقة إلى وضع الخطوط العريضة لقمع فلسطينيي الداخل، والإبقاء على خضوعهم السياسيّ لـ"إسرائيل"، وردعهم عن "النزعات القومجيّة". ترى هذه الوثيقة أن سبب "تمرّد" فلسطينيي الداخل هو أنّ الدولة "لم تجهّز الأدوات لتأمين تعلّقهم بالمجتمع اليهوديّ بشكلٍ لائقٍ وفعّال". التشابه بين منطق هذه الوثيقة ومنطق تقرير لجنة أور مذهل. ويبدو تقرير أور، بلغته الموضوعيّة والجذريّة، كأنّه تطبيقٌ لوصية "كنيغ" التي طالبت بإدارة قمع فلسطينيي الداخل "بقدرة تحليل الظواهر المقلقة ومحاولة علاجها بتفكيرٍ موضوعيّ، يؤمّن المصالح القوميّة اليهوديّة للمدى البعيد".

الفارق المركزيّ بين وثيقة "كنيغ" لقمع يوم الأرض، ووثيقة "أور" لقمع الانتفاضة الثانية في الداخل، هو أنّ الأولى كانت سريّة وقُدّمت للحكومة الإسرائيليّة لتعمل على تطبيقها. أما الثانية، فقُدّمت للفلسطينيين أنفسهم وصارت من مطالبهم. لعب الفلسطينيّون في إطار المنطق التقسيمي الاستعماري للجنة أور: طالبوا بإقامتها أولاً، وشاركوا في عملها، وتبنّوا توصياتها. ونشأت حالة سياسيّة كاملة تتأسس على المنطق الاستعماريّ الذي يطالب بالاندماج الاقتصاديّ الذي يعمّق التمزيق السياسيّ للشعب الفلسطينيّ.

لا مفاجأة في أن يسعى الاستعمار خلال 20 عاماً إلى تطبيق التوصيات التي تكرّس منظومة التقسيم. وعلّمتنا التجربة ألّا نرفع سقف توقّعاتنا من القيادة السياسيّة التي تحظى بمكانتها ووظائفها لأنّها ملتزمة بالقانون الاستعماري. هل نتخيّل أن تتراجع الأحزاب والجمعيّات الفلسطينيّة في الداخل عن حملها "تقرير أور" كتاباً مقدّساً؟ لا يبدو ذلك واقعياً. إلا أن ظلماً حقيقياً، وعميقاً ومؤلماً، يجب ألّا يستمر: الظلم بحق الشهداء وذكراهم وكرامتهم؛ أن يرتبط مسار الأسرلة والاندماج في المؤسسة الإسرائيليّة بحدثٍ كُتب بدمائهم الزكيّة، أن يرتبط، في الخطاب الفلسطينيّ، السعي المطلبيّ للاندماج بالمنظومة الاستعماريّة بأحداث انتفاضة القُدس والأقصى. هذا تزييف قبيح ومُعيب للحظةٍ تاريخيّة مجيدة، ولإرادة من خرجوا إلى الشوارع يومها، وتشويه لأبهى صور الوحدة النضاليّة الفلسطينيّة التي كتبها 13 شاباً في الجليل والمثلث.