9 ديسمبر 2019

جميعنا الآن منظِّرون لفكرة المؤامرة!

جميعنا الآن منظِّرون لفكرة المؤامرة!

على خلاف الطرح الأكاديميّ الذي كان سائداً إلى وقتٍ قريبٍ، يطرح ماثيو دينيث M R. X. Dentith، وهو أستاذ الفلسفة في جامعة ويكاتو في نيوزيلندا، وجهة نظر لا تخجل من الدفاع والمحاججة عن نظرية المؤامرة. في هذا المقال يستعرض دينيث أربعة أمثلة لحوادث تاريخيّة من عالم الفن والسّياسة، منذ فترة الحرب الباردة إلى بداية الألفية الجارية، ليدافع من خلالها عن نظرية المؤامرة، وينتقد الازدراء الموجه لها.يمكن الوصول إلى المقال بالإنجليزية هنا.

-------

في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 2001 تمّ تسميم أليكساندر ليتفينينكو Alexander Litvinenko بواسطة نويدات بولونيوم 210-Polonium، وهي مادّة مشعة نادرة ومُكلِفَة. كان ليتفينينكو، وهو ضابطٌ سابقٌ في جهاز المخابرات الروسيّة، يُرَوِّجُ لعدة نظريات حول مؤامرةٍ دبّرتْ لصعود فلاديمير بوتين Vladimir Putin إلى رأس السّلطة في روسيا. تمّ تسميم ليتفينينكو أثناء لقائه باثنين من زملائه السابقين في لندن حيث كان يعيش، إذ قام أحدُهم بوضع سمّ البولونيوم في فنجان الشاي الخاصّ به.

من المعروف عن البولونيوم أنه يسبّب موتاً بطيئاً ومؤلماً. وعلى الرغم من وضع جرعة ضخمة وفتاكة؛ مئتي ضعف الكمية اللازمة لقتل إنسان، إلا أنّها استغرقت ثلاثة أسابيع لتؤدّي إلى وفاة ليتفينينكو. وعلى فراش موته، اتهم ليتفينينكو جهازَ المخابرات الروسيّة وجهاز الاستخبارات الخارجيّة (خليفة جهاز الـKGB)، وبوتين شخصيّاً بالتورط في مؤامرةٍ لإسكاتِه.

إنّ استخدام البولونيوم للتسميم ليس أمراً معتاداً. فالوصول إليه أمرٌ صعبٌ بما يكفي ليدفَعَنا للتساؤل: لماذا لم يستخدم القتلةُ سمّاً أرخص يسهل الحصولُ عليه؟ ثمّ إنّ البولونيوم سمٌّ مكشوفٌ بسبب إشعاعه العالي، وحقيقة أنّه نُقِل في حاوية غير مُحكَمة الإغلاق فهذا يعني أنه يمكن تتبع بقاياه الدقيقة في سيارات الأجرة والقطارات والطائرات التي استخدمها القتلة للوصول من موسكو إلى لندن.

يبدو ذلك كلّه قصةً جاسوسيّةً مثيرةً، ولكنّ الحقيقة قد تكون أحياناً أغرب من الخيال، خاصّة أنّ هذا قد حصل فعلاً. وبناءً على ما نملِكُه من معلومات، فإنّ موت ليتفينينكو كان بالتأكيد نتيجة مؤامرة، فطريقة موته كانت تحتاج بالتأكيد إلى مجموعةٍ من المتآمرين ليُنَفِّذوا الأمر بسريّة. السّؤال الأهم بعد ذلك هو: أيّ نظرية مؤامرة تشكِّل التفسيرَ الأمثل؟ 

إحدى الخيارات هو أن ليتفينينكو قُتل بأمر من الحكومة الروسيّة كنوع من استعراض الكرملين لقوّته، ولكن هذا ليس هو الخيار الوحيد، فهناك احتمالية أخرى تقول بأنّ موتَ ليتفينينكو الطويل والممتدّ -الأمر الذي منحه ومنح العديد من منتقدي نظام بوتين حضوراً إعلاميّاً قويّاً- قد تمَّ على أيدي أعداء بوتين كنوعٍ من إضعاف الثقة في نظامه. يدّعي المؤيدون لهذه النظرية بأنّ ليتفينينكو ربّما شارك طواعيةً بالأمر، أو أنّه كان شخصاً مغفلاً ومُلائماً لتلفيق مؤامرة حوله لإقناع العالم بأنّ بوتين لن يتورّع عن أيّ شيء عندما يتعلق الأمرُ بتصفية أعدائه.

بغض النظر عن تحديد أيّ من هذه الخيارات هو الصّحيح، فإنّك لن تستطيعَ منع نفسك من التنظير لفكرة المؤامرة في قضية ليتفينينكو. إنّ التفكير بغير ذلك سيبدو أمراً غير عقلانيّ.

 "ولكنني لست منظراً لفكرة المؤامرة... "

عادة ما يتم التعامل مع  مصطلح "نظرية المؤامرة" بازدراء، ويتمّ النظر إليه على أنّه نوعٌ من الاعتقاد اللاعقلانيّ. يمتعض الخطاب العموميّ من كلّ حديث عن نظرية المؤامرة، على الرغم من أننا نعلم أنّ المؤامرات تحدث بالفعل. لماذا إذاً نصبح جميعاً مرتابين عند الحديث عن نظريات المؤامرة؟

إنّ أحد أسباب ذلك هو أنّ الأشخاص الذين يُفترض بأنّهم يعلمون أكثر من غيرهم يُخبروننا باستمرار بأنّ كلّ هذه النظريات مجرد هراء. إنّ معظم الأدبيات الأكاديميّة حول عدم عقلانية الاعتقاد بنظريات المؤامرة نابعة من عمل السير كارل بوبرKarl Popper أو ريتشارد هوفستاتر Richard Hofstadter. يصف بوبر في عمله "المجتمع المفتوح وأعداؤه" ( 1969) الاعتقاد بنظريات المؤامرة بالاعتقاد غير العقلاني على الرغم من وجاهته الظاهريّة، وذلك لأنّ المنظّرين لهذه الأفكار يظنّون أنّ التاريخ هو نتيجةٌ لسلسلةٍ من المؤامرات المتتابعة والناجحة. وبما أنّ الأشياء لا تسير بهذه الطريقة حتماً، فإنّه من الواضح، حسب بوبر، أنّ نظرية المؤامرة حول المجتمع (Conspiracy Theory of Society) خاطئة، وبالتالي فإنّ الإيمان بنظريات المؤامرة، حسب بوبر كذلك، أمرٌ غير منطقيّ وغير عقلانيّ.

 يُصنِّف ريتشارد هوفستاتر في كتابه "الأسلوب القلق في السياسة الأميركيّة" (1965) الاعتقاد بنظريات المؤامرة بأنه اعتقاد قريب من جنون الارتياب (البارانويا). لا يقوم الكاتب هنا بتشخيصٍ طبيّ بقدر ما يحاول أن يقدِّم تفسيراً لِشَكِنا بمصداقية نظريات المؤامرة عن طريق إظهار التشابه بينها وبين أفكار جنون الارتياب، فإذا كنا نعتبر جنون الارتياب أمراً غير عقلانيّ، فإن التحليل سيكشف بأنّ الإيمان بنظرية المؤامرة أمرٌ غير عقلاني أيضاً.

يُعدّ بوبر وهوفستاتر أساتذة الجدل الأكاديميّ حول نظريات المؤامرة، ومن المُنصِف أن نقول بأنّهما أرسيا النظر إلى نظريات المؤامرة بوصفها شيئاً لاعقلانيّاً. من الممكن رؤية نسخ أخرى لنظرياتهم في أعمال حديثة مثل أعمال كاس سنستين Cass Sunstein (سنستين وفيرميولي 2009)، ودانيل بايبس Daniel Pipes (بايبس 1997)، ودايفد أرونفيتش David Aaronvitch (أرونفيتش 2009)، ومارك فينستر Mark Fenster (فينستر 2008). مع هذا، فإنّ أفكار بوبر وهوفستاتر قد تبدو غريبةً عند التمعّن فيها قليلاً، فكلاهما في النهاية يعترفان بأنّ المؤامرات تحدث، وأنّ الاعتقاد ببعض هذه المؤامرات أمرٌ عقلانيٌ. إذاً، لماذا كلّ هذا التشكك في نظريات المؤامرة؟

كان اهتمام بوبر وهوفستاتر طوال الوقت منصبّاً على مزاعم المؤامرات السياسيّة، والتي أجمع كلاهما على أنّها نادراً ما تكون محقّة. غير أنّ كتاباتهما صدرت في الوقت الذي كانت فيه ثقةُ النّاس بالسلطة عاليةً، وكان الوعي العامّ بالتجاوزات السياسيّة ضعيفاً. وقد تبدو أراؤهما معقولةً (حتى لو كنا نعتقد أنّ أفكارَهم ما تزال غريبة) بالنظر إلى السياق الذي كُتِبَت فيه. فبالنسبة لهما، كان من الضروري أن يُحجم الناس عن الاعتقاد بنظريات المؤامرة هذه، منطلقين من فكرة أنه إذا آمن الناس بهذه النظريات، فإنّ هذا سيكون ضاراً بثقة الناس بالسلطات. على الرغم من ذلك، في أيامنا هذه، ومع إمكانية وصولنا لمعلومات رسميّة، ومع أعمال منظمات مثل ويكيليكس، فإنّ التفكير الوثوقيّ لبوبر وهوفستاتر يبدو غير صحيحاً. لقد انعطبت الثقة بيننا وبين السّلطة الساسيّة بشدة بفعل المعرفة التي امتلكناها عمّا يقوم به عادةً أعضاء المنظمات المؤثرة. تبدو بعض الإجراءات من قبلهم تآمرية، كما بيّنت الأدلّة بأنّ بعض نظريات المؤامرة التي استهجنتها الحكوماتُ وأنكرتْها، كانت صحيحةً. لماذا إذاً كلُّ هذا التشكك في نظريات المؤامرة بالنظر إلى كلّ ما نعرفه؟

سبب آخر قد يكون أحد أسباب ارتيابنا من نظريات المؤامرة هو أنّنا نعلم جميعاً أنّ بعض مُنَظِّري المؤامرات غريبو الأطوار. إبتداءً من دايفد إيك David Icke وزواحفه الفضائيّة المُتغيرة الشكل، إلى ألكس جونز Alex Jones ونظرياته حول القوى الحقيقيّة الداعمة للبيت الأبيض، ثمّة كمية سيئة من هؤلاء المنظرين الذين يتسببون بزعزعة الثقة بأيّ اعتقاد بما نُسَمِّيه "نظريات المؤامرة". بالرغم من ذلك، فإنّ هذا لا يجوز أن يكون سبباً للاعتقاد بأنّ الإيمان بنظريات المؤامرة هو في حدّ ذاته أمرٌ لاعقلانيّ وغريب. سيكون الأمرُ كما لو أنّك تنظر إلى التوحيد بالإله من وجهة نظر المُتعصبين فقط، أو كما لو أنّك تنظر إلى الإلحاد بكلّ أطيافه فقط من زاوية نظر ريتشارد دوكنز Richard Dokens. 

إذا بدأنا تحليلنا من اعتقادات نشكّ في مصداقيتها، فإنّ تحليلنا غالباً ما سيؤدي إلى تأكيد نظرتنا الازدرائية لهذه الاعتقادات. بدلاً من ذلك، علينا أن نُرَكِّزَ على فئة النشاطات التآمريّة بشكلٍ عامّ، أي أفعال قام بها المتآمرون بشكلٍ سريٍّ لتوجيه الأحداث إلى نهاية معينة، وأن نتسائل عمّا إذا كانت هناك بالفعل مجموعةٌ من الأفعال التآمريّة المُثبَتَة بالدليل، والتي تصحّ أن تكون موضوعاً لنظريات المؤامرة؟ على سبيل المثال، عادةً ما تتم ملاحقة الجرائم الجنائيّة التآمريّة في المحاكم. إذا كنتَ مطّلعاً على حوادث التاريخ، فإنّك ستكون مُدرِكَاً بأنّ التاريخَ مليءٌ بالأمثلة عن نظريات المؤامرة والتي تمّ إثبات بعضها، وإذا كنتَ تعتبرُ نفسَكَ مُثقفاً سياسيّاً، فإنّك غالباً ستقول بأنّ كمّاً كبيراً من السّياسات المُعاصرة يحدث في وضعٍ تآمريٍّ سواءً عن طريق بيع الأكاذيب السياسيّة للناس، أو تدبير الانقلابات، أو التخلّص من الأعداء.

محاكمات موسكو   

متى لا تكون نظريةُ المؤامرة نظريةَ مؤامرة؟ عندما لا تكون نظرية مؤامرة (هكذا تخبرنا الحكمة المُقرّرة)! خذ على سبيل المثال محاكمات موسكو في الثلاثينيات. أصبح جوزيف ستالين زعيم الاتحاد السوفيتي مهووساً بفكرة أنّ منافسه (في المنفى) ليون تروتسكي  يتآمر من أجل العودة إلى روسيا لإسقاطه. وعندما أخبرت شرطة أمن الاتحاد ستالين أنّه لا يوجد دليل على مؤامرة من قبل تروتسكي والمتعاطفين معه، أخبرهم ستالين أن يحرصوا على أن يكون هناك دليل. وهكذا وخلال عدة أشهر تم تلفيق الأدلة، وتم "إقناع" الناس بأن يشهدوا في سلسلة من المحاكمات أنّ تروتسكي يشكّل خطراً لأنّه يتآمر ضدّ الاتحاد السوفيتي.

كانت هذه المحاكمات مفتوحةً أمام الجميع، وهو ما دفع المواطنين المعنيين (معظمهم وبشكل واضح هم خارج الاتحاد السوفييتي) إلى التمعّن في التفاصيل والتأمل في حيثياتها. شكّل جون ديوي John Dewey، وهو فيلسوف وتربويّ من أتباع تروتسكي، لجنةً للتحقيق في الاتهامات الموّجهة لتروتسكي في محاكمات موسكو (أو ما يسمى "لجنة  ديوي"). صدر نتيجة هذه اللجنة تقريرٌ تضمّن الادعاء بأنّ القرارات الصادرة في محاكمات موسكو كانت مُزيفة، وإنها نتيجة مؤامرة من الأعضاء المتنفذين في الحزب الشيوعيّ الحاكم. ردّ ستالين والمقرّبون منه بأنّ تقرير اللجنة يندرجُ ضمن حملةِ تضليل (بدون قصد قام بصياغة المصطلح الذي سيتم استخدامه في جميع الحالات عند النقاش عن نظريات المؤامرة). رغم ذلك فقد اعترف خليفة ستالين في قيادة الاتحاد السوفيتي نيكيتا خروتشوف Nikita Kruchev بأنّ "لجنة  ديوي" كانت محقةً إلى حدٍّ كبير، وأن ستالين أراد إدانة المتعاطفين المزعومين مع تروتسكي من أجل إثبات وجود مؤامرة من قبل تروتسكي لكي يعود إلى روسيا، وهي مؤامرة غير موجودة فعلياً. إذا كان ولا بدّ، فإنّ ستالين وأزلامه كانوا هم أصحاب نظرية المؤامرة المتهافتة، أما نظرية المؤامرة التي قدّمها أعضاء لجنة ديوي فقد كانت مسوّغة ومقبولة.

ماذا نفعل مع ذلك؟ في ذلك الوقت لم يكن الاتحاد السوفييتي وحده من استهجن ادعاءات لجنة ديوي، بل كذلك الولايات المتحدة وبريطانيا. وثقت إنجلترا وأميركا بتأكيدات ستالين أن المحاكمة حرّة ونزيهة، وبالتالي فقد آمنوا بما اتضح لاحقاً بأنه نظرية مؤامرة. إذاً، هل كان خطأ أنّهم قاموا بوسم نظرية لجنة ديوي عن صحة الأحكام الصادرة في محاكمات موسكو بأنها نظرية مؤامرة في ذلك الوقت؟ هذا سؤال غريب، سؤال يُشير إلى مشكلة معينة في الحديث عن نظريات المؤامرة بشكل عامّ: إذا قمنا بالتحفظ على المصطلح (أي مصطلح نظرية المؤامرة) واستعملناه فقط للتعبير عن نظريات غير منطقيّة وغير عقلانيّة بحكم التعريف، فإنّ هذا سيؤدي إلى أن تصبح الحالات التي يتبين فيما بعد أن الاعتقاد بها لم يكن هو الشيء غير المنطقي، بحاجة إلى تفسير باستخدام منطق غير نظريات المؤامرة. هذا نوع من الفخ التجريدي الذي كان تشارلز فورد Charles Ford سيحبّه بالتأكيد: نظرية المؤامرة ليست نظرية مؤامرة عندما تصبح نظرية رسميّة عن مؤامرة، حتى لو أُطلق عليها في البداية نظريةَ مؤامرة. 

العبرة من محاكمات موسكو هي أنّ الحكومات في بعض الأحيان تتآمر ضدّ مواطنيها، وأنّ التفسير المنطقي الوحيد لذلك هو نظرية مؤامرة. ومع هذا، ففي بعض الأحيان فإن الحكومات تتآمر مع مواطنيها الغُشماء.

التعبيريّة التجريديّة  للـCIA

حين نسمع بوكالة الاستخبارات المركزيّة C.I.A، تتبادر إلى أذهاننا مجموعة من العاملين في بزات رماديّة، يقضون ساعات طويلة بالتجسس على الجميع، دون أن تشغلهم هوايات خاصّة أو ما شاكل. رغم ذلك، في أربعينيات القرن الماضي كان عملاء الاستخبارات أناساً أكثر انتقائية. ولكنّ بعضهم كان يشرب حد الثمالة، ويكتب الروايات في أوقات فراغه، ويهتمّ بجمع الفنّ. وقد أسس أعضاء وكالة الاستخبارات هؤلاء ما سُمّي بـ "المقود ذي السلسلة الطويلة" Long Leash، وهي مجموعة سريّة تقوم بتمويل المبادرات الفنيّة لِتُظهِرَ أميركا بمظهر المتفوق ثقافيّاً على أعدائها، وبالأخص على الاتحاد السوفييتي الذي كانت تخوض معه الحرب الباردة آنذاك.

كانت واحدة من الحركات الفنيّة التي تمّ تمويلها لهذا الغرض هي التعبيريّة التجريديّة. أَسَّسَتْ وكالة الاستخبارات جبهات في عدة أماكن لترويج أعمال فنانين تجريدين من أمثال جاكسون بولوك Jackson Pollock، وذلك لنشر الثقافة والفن الأميركيين. يمكننا الذهاب للقول بأن التعبيريّة التجريديّة شكّلت سلاحاً للاستخبارات في الحرب الباردة، لكنّ فناني الحركة لم يكونوا على علم بأنّ جزءاً من تمويلهم ونجاحهم الأوليّ كان مصدره الاستخبارات المركزيّة، ظنّاً منهم بأن نجاح فنهم كان نتيجة تميزه، إذ أشاد به نقاد معروفون واقتنته أفضل المؤسسات. 

على الرغم من ترويج وكالة الاستخبارات للتعبيرية التجريديّة كجزء من عدّتها الثقافيّة في الحرب الباردة، فإنّ المؤامرة قد أدّت إلى تسيّد التعبيرية التجريديّة بفعل قدراتها الذاتيّة. لا شكّ بأنّ ذلك كان أحد النتائج المرغوب فيها عند من أداروا "المقود ذي السلسلة الطويلة"، فقد سمح ذلك للأميركيين بالتغني بأن فنهم ينافس ثقافيّاً أوروبا والاتحاد السوفيتي.

تُظهِر قصةُ نجاح التعبيريّة التجريديّة بأن نظريات المؤامرة لا تقتصر على عالم السياسة. كما أن هذه المؤامرات لا تعبر عن شيءٍ شريرٍ بالضرورة. قد يكون التمويل السريّ لتلك الحركة مثيراً للريبة - ككل النشاطات السريّة - لكنه ليس بجريمة. إنّ تحليل أمثلة مثل "المقود ذي السلسلة الطويلة" يتيح لنا دراسة فئة أوسع من نظريات المؤامرة التي تقدّم تفسيرات تتمّ إدانتها عادةً (إلا إذا كنتَ ناقداً فنيّاً سوفيتياً آنذاك)، وهي فئة يجدر بنا التفكير فيها مطوّلاً. إنّ "السلسلة الطويلة" هي بالنهاية مؤامرة وأي نظرية حولها ستكون نظرية مؤامرة، بما في ذلك أي نظرية تشير إلى دور "المقود ذي السلسلة الطويلة" في النجاح الأوليّ لهذا الفن، والنظرية هذه مبينة على أدلة، ولذا فإنّها حقيقة.

توضح أمثلة موت ألكساندر ليتيفينكو ومحاكمات موسكو و"المقود ذي السلسلة الطويلة" أنه ينبغي أخذ نظريات المؤامرة على محمل الجدّ، بغض النظر عن رأينا في المنظرين الحمقى أمثال ديفيد إيك وألكس جونز. إذاً، ماذا نفعل حينما نصطدم بأكثر من نظرية مؤامرة كما حدث في أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟

نظريات المؤامرة حول 11/9

في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001 دمّر هجومٌ إرهابيٌّ برجي التجارة التوأمين، إضافة إلى هجوم آخر على وزارة الدفاع الأميركيّة في العاصمة واشنطن. يقول الكثير من المعلقين على الحدث بأن تنظيم القاعدة الإرهابيّ قام بالتخطيط وتنفيذ الهجوم، ولكنّ هناك مجموعة صغيرة -ولكنها ملحوظة- من نظريات المؤامرة معروفة غالباً بـ"Truthers 11/9". تدّعي هذه النظريات أنّ من نفذوا الهجوم في الواقع هم جهة أجنبية تحت شعار مزيف، أو أن الهجوم تم تنفيذه بأوامر من بعض العناصر من داخل الحكومة الأميركيّة.

 أيّاً ما كان ما تؤمن به حول 11/9، فإنك غالباً تؤمن بنظرية مؤامرة. فإما أن القاعدة عملت بشكلٍ سريٍّ لتنفيذ الهجوم على الأراضي الأميركيّة، أو أنّ هناك منظمة أخرى قامت بالهجوم ووضع اللوم على القاعدة. لا يهم أي نظرية تؤمن بها، فقد تبين أنك من المؤمنين بالمؤامرة حول 11/9. إذاً، كلّ ما يهم هنا هو الدليل الذي تستخدمه لتبرير اختيار نظرية مؤامرة بعينها،  وهذه هي العبرة في تقييم أي نظرية مؤامرة: تكونُ أي نظرية مؤامرة قويّةً بقوّة الدليل الذي يُثبِتُها. إذا أردنا التشكيك بنظريات المؤامرة فليكن التشكيك مبنياً على نقاش لماذا هناك نظريات مؤامرة معيّنة جيدة أو غير جيدة. في النهاية، أحياناً قد لا يكون أمامنا خيار سوى الاعتقاد بإحدى هذه النظريات المُتنافسة.

سيجادل البعض بالتأكيد بأن قبولهم بنظرية القاعدة لفهم الأحداث ليس نوعاً من نظرية المؤامرة لأنه الآن بات جزءاً من التاريخ المؤكد. هذا ما يعيدنا إلى الفخ التجريديّ: متى لا تصبح نظرية المؤامرة نظرية مؤامرة؟ على سبيل المثال، في تلك اللحظات بين حدوث الهجوم وبين تبني القاعدة للهجوم، كلُّ النظريات عن المُسبِّب للهجوم والدمار الذي حصل في البرجين، كانت نظريات مؤامرة. أصبحت إحدى هذه النظريات معقولة ومنطقية فقط عندما أعلن تنظيم القاعدة مسؤوليته عن الهجوم. قبل الإعلان كان لدى الناس شكوكهم بأن القاعدة هي من نفذت العملية، ولكنّ شكوكهم كانت لا تزال شكوكاً مبنية على احتمالية أن تكون ثمّة نظرية مؤامرة معينة معقولة أكثر من غيرها.

خاتمة

لماذا كل هذا الارتياب من نظرية المؤامرة؟ لماذا نخاف من أن يتم اتهامنا بأنّنا مؤمنون بهذه النظريات فنبادر عادةً إلى القول: "أنا لستُ مؤمناً بنظرية المؤامرة، ولكن…"؟، المؤامرات تحدث ولا يبدو أنّ أحداً ينكر ذلك. ومنها ما يتبيّن فيما بعد بأنّها كانت مُبررة، على الرغم من أن الكثير من الأشخاص ينكرون ذلك بقولهم: "آه، ولكنها ليست حقاً نظرية مؤامرة، أليس كذلك؟". يبدو قلقنا حول نظريات المؤامرة، كما صاغه الفيلسوف تشارلز بيجن Charles Pigden، بأنّه خرافة حديثة أو كما وصفه ليي باشام Lee Basham كنوع من الديانة المدنيّة. لقد قيل لنا دائماً إنّ نظرية المؤامرة مجرد هراء، وتعامَلنا معها على ذلك الأساس. يجادل بعض المؤمنين بهذه النظريات مثل إيك وجونز بأننا نتصرف هكذا لأن الأشخاص الذين يستمرون بإخبارنا أنّ هذا هراء هم أكثر الناس استفادةً من ذلك. 

في النهاية، في عالم يختبىء فيه المتآمرون خلف جملة "لكنها مجرد نظرية مؤامرة"، ستمرُّ الكثير من المؤامرات من دون أي تحقق. مع هذا، وحتى لو كنت لا تؤمن بأنّنا نعيش في عالم متآمرٍ بشكلٍ تامٍّ، فإنّه من الواضح أنّ الإيمان بنظريات المؤامرة  يكون أحياناً هو أكثر الأمور عقلانيّةً.



13 يناير 2019
لماذا تفشل خططنا للسنة الجديدة؟

تُشكِّلُ بداية السّنة إغراءً للبدايات ووضع الخطط وتصوّر القادم من الأيام، ومناسبةً لخطابٍ تُلقيه على نفسك بأنّ الأمور ستكون مختلفة.…