21 ديسمبر 2020

سماد "إسرائيل".. أرباحٌ تقتل غزلان النقب

سماد "إسرائيل".. أرباحٌ تقتل غزلان النقب

لا ينحصر الأثرُ الكارثيّ لمشاريع الاستعمار الإسرائيليّ بإحلال المستوطنين مكان الفلسطينيّين، إنّما يتجاوزه إلى الإضرار بالقليل الذي تبقى لأهل البلاد وتدمير طبيعتهم بهدف التربّح من ثرواتهم، بطريقةٍ يُعيد بها الاستعمار تعريف الثروات الطبيعيّة كوسيلةٍ لحرمان الفلسطينيين من أرضهم، وترسيخ أطماعه وتثبيت قاعدته الاقتصاديّة.

تمتلك فلسطين موارد طبيعيّةً وفيرة، وتُعتبر صحراء النقب من المناطق الغنيّة بالثروات الطبيعيّة، ومن أهمها "الفوسفات" الذي يُعدّ مركّباً مركزيّاً في صناعة الأسمدة. التفتت "إسرائيل" لأهميّة هذا المعدن منذ السنوات الأولى التي تَلَت النكبة، وأسست في العام 1952 شركة "فوسفات النقب"، أولى منشآتها الصناعيّة لاستخراج الفوسفات من أراضينا.

اقرؤوا أيضاً: الاستيطان الصناعيّ.. هكذا تخنقنا أرباح "إسرائيل"

وخلال عقودٍ طويلة من استنزاف مخزون الفوسفات، خلّفت "إسرائيل" أضراراً جسيمة في البيئة الفلسطينيّة، وكان الفاعل الأبرز في هذه الانتهاكات مصنع "روتم أمفرت" في النقب، المُصنّف في عام 2018 باعتباره المصنع الإسرائيليّ الأكثر ضرراً على البيئة في أراضي الـ1948. في هذا المقال، نحاول تتبّع آثار هذا المصنع الذي يستخرج 7.5 مليون طنّ من الفوسفات سنويّاً، وكيف أحدث في بيئتنا الفلسطينيّة أضراراً لم تشهدها من قبل.

"روتم أمفرت".. البدايات

منذ العام 1869 بدأ الحديث عن الفوسفات الفلسطينيّ الخام، وهو جزءٌ من حزام الفوسفات شرق الأوسطيّ الممتد من تركيّا إلى المغرب، والمُتشكّل منذ أكثر من 45 مليون سنة. اكتُشف الفوسفات في فلسطين بدايةً بالقرب من النبي موسى على طريق القدس-أريحا، لكنّه لم يكن ذا أهميّة اقتصاديّة كبيرة بسبب تدنّي نسبته في الصخور، حتى اكتُشفت حقول الفوسفات في النقب عام 1950، لتتغير المعادلة حينها. 

يُعدّ الفوسفات مورداً غير مُتجدد يتوقع نفاذه خلال 5-6 قرون، وهو من أهم العناصر التي تدخل في استخداماتٍ زراعيّةٍ وصناعيّةٍ وطبيّةٍ عديدة؛ من بينها صناعة الأسمدة والمنظفات الكيميائيّة والمبيدات الحشريّة ومستحضرات التجميل ومعالجة المياه. 

وفي العام 1952، بدأ الاحتلال باستخراج الفوسفات من حقول شمال النقب، لكنّ شركة "روتم أمفرت"، الشركة الأكبر لاستخراج الفوسفات والأكثر ضرراً، أُنشئت سنة 1977 باسم "سماد روتم" كشركةٍ حكوميّة، قبل أن يتغيّر اسمها أواخر الثمانينيات إثر اندماجها مع الشركة الهولندية "أمفرت "، وتتحوّل ملكيّتها في 2001 إلى مجموعة عوفر الخاصّة.  وتسيطر "روتم أمفرت" على 60,000 دونم من حقول الفوسفات في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، وهي الشركة الإسرائيليّة الوحيدة التي تقوم باستخراج الفوسفات وتصنيعه، وتبيعه لمصنعٍ آخر يقوم بتصنيع أسمدةٍ متنوّعة، في سوقٍ تُقارب أرباحه السنويّة مليار دولار.

آثارٌ صحيّة مدمّرة

داخل المنطقة الصناعية "ميشور روتم" (شمال خط شارع 25)، وعلى بعد 20 كم جنوب مستوطنة عراد و15 كم شرقي مستوطنة ديمونا، تُصنّع شركة "روتم أمفرت" الأسمدة في منشآتٍ منفصلة. كما وتُصنّع أيضاً مركبّاتٍ أوليّةً تساهم في إنتاج الأسمدة، مثل أحماض الكبريتيك وأحماض النتريك والفوسفوريك. 

ووفق بياناتٍ من العام 2018، تسببت هذه المصانع بارتفاع مستوى تلوّث الهواء المحيط بها عن المستوى الذي أقرّته منظمة الصحّة العالميّة، وخاصة ارتفاع نسبة غاز ثاني أكسيد الكبريت المنبعث من عملية تصنيع حامض الكبريتيك. يلعب هذا الغاز دوراً مهمّاً في تكوين المطر الحمضي، ويتسبب بمشاكل صحيّة عديدة لدى الجهاز التنفسيّ بشكلٍ أساسيّ، كالاضطراب في الرئتين لدى مصابي الربو ولدى الأطفال، ممن يتعرضون له لفتراتٍ طويلة أو يسكنون قرب مصدر الانبعاثات.

مشهد عامّ من المنطقة الصناعيّة "ميشور روتيم" في النقب.

تنضوي عمليّة تصنيع الأسمدة كذلك على التعامل مع مركّباتٍ حمضيّةٍ أخرى، منها حمض الهيدروفلوريك المؤذي للرئتين، وحمض الهيدروكلوريك الذي يُحدث حروقاً في الجلد والرئة مسبباً امتلاءها بالسوائل. كما يشتمل دخان مصانع "روتم أمفرت" على مخلّفات كيميائيّة طيّارة، تؤثر في الجهاز التنفسيّ، وتسبب تلوّث الماء والطعام عند تساقطها مع مياه الأمطار على التربة والمسطحات المائية. ومن هذه المخلّفات ثاني أكسيد النيتروجين الذي يُثير الحساسيّة في العينين والرئتين ويُضعف جهاز المناعة، خاصّة لدى الأطفال.

بخلاف البروتوكول المعتمد عالميّاً، ودون أدنى مراعاةٍ لمعايير السلامة البيئيّة، تخزّن شركة "روتم أمفرت"  آلاف الأطنان من مواد كيمائيّة عالية السُميّة مثل حامض النيتريك، ببركٍ مكشوفةٍ تماماً. وتخزّنها أيضاً ببركٍ أخرى داخل الأرض، بدلاً من أن تخزّنها بحاوياتٍ ضخمةٍ مُغلقة مثلما تفعل دول العالم، بما فيها الهند المصنّفة كأكثر الدول إضراراً للبيئة.

وبُحجّة "الخطر الأمنيّ"، تُعرّض سلطات الاحتلال التربة والمياه الجوفيّة في النقب لخطر التلوّث، بينما تتّبع أسلوب الحاويات المغلقة عند التعامل مع مركّباتٍ حامضيّة يتم تخزينها في ميناء أسدود، دون التطرّق لمزاعم "الخطر الأمنيّ". ما يعدّ تصرفاً انتقائيّاً يشير إلى نيّة هذه الشركات انتهاك البيئة وتحقيق أطماعها في الثروات الطبيعية بأقل تكلفة ممكنة. إذ إنّ التخزين في بركٍ أرضيّةٍ في النقب، بعيداً عن أعين الناس وعن رقابة المُحتجّين، أقلّ تكلفةً بكثير من التخزين في الحاويات الآمنة المُخصّصة لمثل استخدام كهذا.

غزال ميّت بعد حادثة انهيار بركة التبخر في المصنع، يونيو/ حزيران 2017

لم تسلم حتّى الغُزلان

تُخزّن الشركة أيضاً النفايات الكيميائيّة الناتجة من عمليّة تصنيع حمض الفوسفوريك في بركٍ ضخمة بمساحة ما يقارب الـ20-30 دونماً، وتتسرب هذه المواد/ النفايات لتلوّث التربة والمياه الجوفيَة، كما تتبخر إلى الهواء مهددةً الكائنات الحية المتواجدة بالمنطقة.

وفي حادثةٍ خطيرة نهاية شهر يونيو/ حزيران 2017، انهار جدار إحدى البرك، وتدفق ما يقارب 100 ألف كوب من النفايات الحامضيّة، وأحدثت النفايات سيولاً بلغ ارتفاعها 4 أمتار في مناطق مختلفة بالقرب من المصنع، مشكّلةً "فيضاناً أسود منتصف الصيف". جرت هذه السموم مسافة 20 كم وصولاً إلى ضفاف البحر الميت، مسببة كارثة بيئية ومُخلّفةً دماراً شاملاً لحق بالنباتات والحيوانات والتربة والمياه الجوفيّة. 

اقرؤوا أيضاً: إبل النقب.. لماذا تستهدف "إسرائيل" الحيوانات؟

نفقت الحيوانات البريَّة التي تواجدت بالمنطقة، ومنها الغزال الفلسطيني وحيواناتٌ مهددة بالانقراض، وأحرقت الأحماض الشجيرات التي تنتشر قرب "روتم أمفرت" وتُشكل موادَّ غذائية للحيوانات البريّة مثل الأيائل والغزلان. كما أذابت الأحماض صخور الجير على امتداد المنطقة المُحيطة، وأضرّت بطبقات التربة بشكلٍ سيؤدي لاحقاً لمزيد من الضرر على النباتات، ووصل التلوث إلى المياه الجوفيّة في ينابيع كثيرة على ضفاف البحر الميت. ونظراً لحجم الكارثة، يتوقّع خبراء أنّ البيئة ستحتاج عشرات السنوات لتتعافى من تأثيرها.

خطرٌ آخر قادم

يُخطط الاحتلال لإنشاء حقلٍ جديد للتنقيب عن الفوسفات على مساحة 28 ألف دونم من الأراضي، تقع معظمها داخل نطاق قريتيْ "الفرعة" و"الزعرورة" مسلوبتيْ الاعتراف، في النقب. ويهدّد المخطط بتهجير ما يقارب 10 آلاف شخص من الفرعة والزعرورة، وسيؤثر على قرى أخرى، منها قرية غزَّة مسلوبة الاعتراف وقرية قطامات، وسيترك آثاراً صحيّة كارثيّة على نحو 30 ألف نسمة من قرى غزة والزعرورة والفرعة وكسيفة وفق تقريرٍ صدر عن مركز أبحاث "الكنيست" في 2013.

اقرؤوا أيضاً: مخطط "برافر" باقٍ ويتمدد

حتّى الآن، تُعارض منظماتٌ إسرائيليّة المخطط الجديد، لذلك يبدو متعثّراً. لكنّ الصورة العامّة في أنحاء فلسطين هي أنّ الاحتلال، الذي اجتاح الأرض وهجّر الأهالي وسعى جاهداً لمحو آثارهم وطمس وجهها الذي ألفوه، لم يتعثّر مرّةً واحدة في مصادرة تراب فلسطين وتجفيف مياهها واعتصار ثرواتها حتى آخر قطرة.