29 يوليو 2021

بقلمٍ عسكريّ: فلسطين في منهجِ التَّاريخ المصريّ

بقلمٍ عسكريّ: فلسطين في منهجِ التَّاريخ المصريّ

أواخر أيّام العام الماضي أكّد الرئيس المصريّ عبد الفتّاح السّيسي على "استمرار بذل مصر لجهودها تجاه القضيّة الفلسطينيّة"، وَوَصفَها بكونها ثابتاً من "ثوابت السّياسة المصريّة". فلسطين "الثابتة" في السياسة المصريّة حاضرةٌ في كتب التاريخ المدرسيّة أيضاً... إنما هي حاضرة وتُوظَّف في خدمة طبيعة النظام المصريّ، أي أنّها حاضرة كما يُحبُّ أن يراها حكمُ العسكر.

ورغم الاختلافات السياسيّة الهائلة من عهد جمال عبد الناصر حتى السيسي اليوم، إلا أنّ العقليّة العسكريّة الحاكمة تبقى العامل المشترك الذي كان حاضراً في مصر ولا يزال. وتنعكس ثقافة هذه السّلطة العسكريّة على المجتمع بخلق ميّزاتٍ قوميّة تُقدّم الجيش، والدولة، والقيادة، وتحوّل المواطنين والشعوب إلى "أمّة" تتجسّد فقط من خلال الجيش والدولة.

تنعكس هذه الثقافةُ أيضاً على تصوير فلسطين في المناهج المدرسيّة، وتظهَرُ عبر لُغةِ ومضمونِ وشكلِ الأجزاء المعنِيّة بنقاش القضيّة الفلسطينيّة والصراع العربيّ الإسرائيليّ في كتب الاجتماعيات والتاريخ المصريّ. لغرض هذا المقال، اطلعنا على كتابيْن مدرسيَّيْن، يُدَرَّس الأول للصّف الثالث الإعدادي، ويُدَرّس الثاني للصف الثالث الثانوي، ووجدنا لغةً ومضموناً مُجنّديْن لصالح شرعنة الحكم العسكريّ وثقافته وتصوير بطولاته من جهة، ومُحتفياً بالسّلام مع "إسرائيل" كطريقٍ للتنمية الاقتصاديّة من جهة أخرى.1  تُوجد الدروس التي تمّ تحليلها في المقال في الوحدة الثالثة "ثورة يوليو والصراع العربي الإسرائيلي" لكتاب الفصل الثاني للصف الثالث الإعدادي (ص.56- ص.70)، و في الفصل السابع "مصر وقضايا العالم العربي المعاصر" للصف الثالث الثانوي/أدبي (ص.116-ص.139). طبعة 2019-2020

تغييب شعب

للبرهنة على الحاجة لقوّة عسكريّة عربيّة/ مصريّة، يُغيّب المنهجُ المصريّ دورَ الشعب الفلسطينيّ في المقاومة ضدّ الاحتلال، ويُركّز على صورة الفلسطينيّ الذي يحتاج إلى إنقاذٍ من قِبل الجيش العربيّ/ المصريّ.

يُصَوَّر الفلسطينيّ في المنهج وكأنّه لم يُقاوم، خاصّةً ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ بعد الانتداب البريطانيّ. يُغَيّب المنهج ذكرَ اسم أيٍّ من المقاومين الفلسطينيّين في المنهج، عدا سؤالٍ في آخر صفحة لأسئلة الوحدة للصف الثالث الإعداديّ عن "مفتي القدس الذي شارك في ثورة 1936"، ذلك دون ذكر اسمه في الدرس.

وفي حديث المنهج عن ثورة البُراق لا يُشار إلى الإضرابات والمظاهرات التي قادها الشعبُ الفلسطينيّ، ويكتفي الكتاب بتوصيفها على أنّها "من بين الصدامات الكبرى بين العرب واليهود". وثورة 1936، لا تتمّ الإشارة فيها لمقاومة الشعب الفلسطينيّ، بل كان الحيّزُ الأكبر في الحديث عنها لدور الانتداب البريطاني في إخمادها. وبالرغم من الإشارة المقتضبة إلى تشكيل "اللجنة العربيّة العليا" عام 1935، إلا أنّ هذه الكتب لا تذكر أي نشاطٍ تنظيميٍّ سياسيٍّ فلسطينيّ وأيَّ دورٍ له في مقاومة الاستعمار.

اقرؤوا المزيد: "قبل النكبة.. في البدء كانت ثورة 1936".

وفي سياق تغييب دور الشّعب الفلسطينيّ الفاعِل في المقاومة، يذكرُ المنهجُ أهالي فلسطين في سِياق "فرارهم" من البلاد. إحدى نتائج حرب 1948 بالنّسبة للمنهج هي أنّ "ما يقارب مليوناً من أهالي فلسطين قد فرّوا من وطنهم وتركوه لليهود ضعفاً". إضافةً لذلك، هناك تغييبٌ لذكر الخسائر البشريّة، ويُشار باقتضابٍ للمجازر التي قام بها الاحتلال. فلا تُذكر إلا مجزرة دير ياسين، والتي لا يُشار فيها أيضاً إلى الخسائر. ويبدو أن ذكرها جاء تمهيداً للحديث عن حاجة الفلسطينيين للجيوش العربيّة أكثر من كون ذكرها برهنةً على الفظائع التي قام بها المُحتلّ الصهيونيّ. إذ يُعلّق الكتاب على نتائج المجزرة: "خرجت جموعُ الشعب الفلسطينيّ مذعورةً من بلادها على أمل العودة مع الجيوش العربيّة التي كانت تستعدُّ للدخول إلى فلسطين لإعادة الأمن والسكينة والحقّ إلى تلك البلاد المنكوبة".

وبالرّغم من أنّ لغة المنهج تكون أكثر جرأةً في الإشارة إلى الانتداب البريطانيّ باسم استعمار، وذكر مقاومة الفلسطينيين قبل 1948، يتغيّر ذلك بعد إعلان قيام دولة "إسرائيل" التي يتمّ التعامل معها كخصمٍ في حربٍ لا كمُستعمرٍ للأرض، وتُصبح الجيوشُ هي مركز الرواية التّاريخيّة. فنقرأ تاريخاً بقلمٍ عسكري، يُسلّط الضوءَ على الحاجة للقوّة العسكريّة ويتلافى ذكرَ المُقاومةِ والخسائر الشعبيّة.

الصهيونيّة إرهابيّة، أما "إسرائيل" فلا! 

يتفادى المنهج الإشارة إلى "إسرائيل" كقوةٍّ استعماريّةٍ أو عدوّ في السّياق الفلسطينيّ، وينسب انتهاكات الاحتلال ومجازره إلى "الصهيونيّة"، بينما يستخدم لفظَ "إسرائيل" مرتبطاً بالحرب، ليتحوّل الحديث بسلاسةٍ من بعد الحرب إلى معاهدة السّلام.

يصف المنهجُ الاحتلالَ الإسرائيليّ كخصمِ حربٍ، مع تفادي وصفِه بالإرهاب. يردُ وصفُ إرهاب في موضعين فقط، في الموضع الأوّل يُذكر لوصف الأجهزة "الإرهابيّة السريّة للمنظمات الصهيونيّة" في اعتدائها على الإنجليز. والمرة الثانية في وصف قيام "القوات الصهيونيّة" بعمليات "إرهابية" مثل مجزرة دير ياسين. وفي المرتين التأكيد على استخدام لفظ الصهيونية.

ومن الملفت أنَّ توصيفَ القوات الصهيونيّة وما فعلته بـ"عمليات إرهابية" جاء مسبوقاً بِالحديث عن تدفّق "العناصر العسكريّة اليهوديّة" إلى فلسطين والتي كانت تقاتلُ خلال الحرب. يُشير ذلك إلى فصلٍ بين فعل الإرهاب الصهيونيّ وبين العناصر العسكرية اليهوديّة، وهو أمرٌ يقوم به المنهج بطريقةٍ ملفتة باستخدامه للفظ "اليهود" و"إسرائيل" و"الصهيونيّة" في مواضع مختلفة على حسب السّياق.

اقرؤوا المزيد: "فلسطين الكبرى.. عن استحالة التسوية".

مقابل "العناصر العسكريّة اليهوديّة" التي هي خصمٌ في الحرب، يُنسب أيّ فعل إرهابيّ إلى "الصهيونية"، والتي يختفي ذكرها بعد قيام "دولة إسرائيل"، إلا عند استدعائها لمرّة واحدة فقط في سياق الحديث عن أسباب عدوان 1967 ولربطها بـ"مقاصد الاستعمار" والتي يتجنّبُ الكتاب ربطها مع "إسرائيل". هكذا يصير الحديثُ عن "إسرائيل" متمركزاً حول قوّتنا العسكريّة وحولها كخصمٍ في الحرب، لا حول انتهاكها لحقوق الشعب الفلسطينيّ واحتلالها للأرض، مع تغييب المستوى الاجتماعيّ للاستعمار وأثره على الناس. وكأنَّ المنهج يقول فيما يقوله: بما أنّ "إسرائيل" قوّة عسكريّة تشكّل تهديداً وخطراً، يُصبح لقوتنا العسكريّة دورٌ لمواجهتها. إلّا أنّنا نواجهها كخصم حربٍ هَزمَنا حيناً وهزمناه حيناً آخر، وهي ليست قوة استعماريّة انتهكت أرضنا وسفكت دماءنا"، وهذا ما يحمل بذور التمهيد "للسلام القادم".

أعظم الانتصارات... تمهيداً "للسلام"

هناك تصويرٌ لتفوّق اليهود منذ بداية الحديث عن نشأة الصهيونيّة. ففي كتاب الثالث الثانويّ يؤسّس مقطعُ "تطوّر القضية الفلسطينيّة منذ القرن 19" لذلك بالإشارة إلى "ارتفاع المستوى الفكريّ لدى اليهود ومهاراتهم الاقتصاديّة"، ويُركّز المنهج على "القوّة العسكريّة اليهوديّة" بطريقةٍ تعكس للقارئ أنّه خصمٌ شديد القوّة، فتُوصف خلال الحديث عن معارك 1948 أنّها ذات "خبرة عالية". وفي أسباب الهزيمة في حرب 1948 يُذكر "تفوق اليهود على جميع جبهات القتال". وفي 1967، يُشار إلى "التفوق العسكريّ الإسرائيلي وبصفةٍ خاصّة السلاح الجويّ" كسببٍ من أسباب الهزيمة.

وصفُ المنهج لتلك القوّة العسكريّة التي تمثّل خطراً خارجيّاً، يبرهنُ للطلاب الحاجةَ لجيشٍ قويٍّ يتصدّى لها. ويذكرُ المنهج أنّ الجيش المصريّ قد فعل ذلك في حرب أكتوبر إذ سَطّر فيها "أعظم الانتصارات في البرّ والبحر والجوّ"، ويُشيد المنهج في معلومةٍ إثرائيّة في كتاب الثالث الإعدادي باعتراف "إسرائيل" بعد حرب أكتوبر بـ"القوّة العسكريّة العربيّة".

الرئيس المصري أنور السادات (ظهر للكاميراً) ورئيس وزراء الاحتلال مناحيم بيغن يحتضنان بعضهما البعض ، في 17 سبتمبر 1978 ، بعد توقيع اتفاقية سلام ة بالبيت الأبيض بينما ينظر الرئيس الأمريكي جيمي كارتر. Photo by - / FILES-CONSOLIDATED NEWS PICTURES / AFP

لإبراز دور السّادات كقائدٍ مُخَلٍّص ومُنقذ، يصوّر المنهجُ معاهدةَ السَّلام على أنّها "حلّ شامل" و"مبادرة حضاريّة" من قبله. فتختصرُ صورة السادات مع بيجين بينما تعلو وجهيهما ابتسامةٌ أثناء توقيع معاهدة السلام، وصورة علم مصر فوق طابا في كتاب الثالث الإعدادي ذلك الإنجاز. ويذكر في معلومة إثرائيّة حصولّ كلٍّ من السادات وبيجين على جائزة نوبل للسلام لـ"جهودهما الحثيثة في تحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط".

بعد حرب أكتوبر تتحوّل اللّغة التي كانت تتحدّث على "استحياء" أصلاً عن فلسطين إلى لغةٍ أكثر حياءً. ويؤسّس درس "الصراع العربي الإسرائيلي" للصف التاسع أنّ من القضايا المتضمّنة للدرس هي "التربية من أجل السّلام"، إضافةً لـ"نبذ العنف والإرهاب لتحقيق السلام". وأنّ انتصار حرب أكتوبر أعادَ "الثقة للمقاتل المصريّ والعربيّ"، ولكنّه علّمنا أيضاً أنَّ "منطق القوّة لا يمنح سلاماً". ويؤكّد المنهج على "ويلات الحروب" التي "تستنزف الطاقات والموارد البشريّة والماديّة".

ومزايا السّلام، التي يذكر كتاب الثالث الإعدادي أنّ تعدادها هو أحد أهداف درس "مصر والصراع العربي الإسرائيلي"، هي ما يُختتم به الدرس والحديث عن الصراع العربيّ الإسرائيليّ. فـ"الاستقرار الداخليّ للبلاد"، و"دفع عجلة التنمية الاقتصاديّة"، و"تشجيع الاستثمار"، و"تنشيط حركة السياحة" التي تؤدّي إلى "زيادة الدخل القوميّ"، وحتى "إقامة المشروعات الوطنيّة"، كلّها ثمرات للسلام وإنهاء الصراع العربيّ الإسرائيليّ. والحقيقة المطلقة التي لا خلاف فيها كما في الكتاب هي أنّ "اختيار السلام بدلاً من الحرب التي تستنزف كافة الموارد الاقتصاديّة والبشريّة يعود بالنفع على وطننا العربي".

صورة من كتاب الصف الثالث الإعدادي للتاريخ، صفحة 67.

ولم تقتصر الميّزات على ذلك، فيُشير الكتاب إلى أنّ ذلك السّلام مهّد لاتّفاقيّة أوسلو التي أدّت لقيام "سلطة وطنيّة فلسطينيّة تعكس أماني الشعب الفلسطيني في الوطن الفلسطيني"، هو نفس الشعب الذي يُتلافى ذكرُ أمانيه في المنهج حتّى يُذكر السّلام.

يختتم كتاب الثالث الإعدادي حديثه عن القضيّة الفلسطينيّة والصراع الإسرائيلي بهذه المزايا، عاكساً تحوّل السياسة المصريّة في عهد السادات نحو السّلم والانفتاح الاقتصاديّ، وكون هذا الزعيم جلب كل هذا الخير والازدهار للبلاد. ويبدو أنّ "صديق" نتنياهو اليوم يقوم بذات الأمر في عهد "السلام والازدهار" الذي تحوّلت فيه الجيوش من ساحة المواجهة لطاولة الحوار حول تعاونٍ اقتصاديّ جديد.

لئلا تبقى فلسطين أداةً لخدمة الأنظمة

ليست مصر الوحيدة، فروايةُ التاريخ الفلسطينيّ ستختلف في المناهج كلٌّ بحسب السّلطة التي تُملي الدروس وتتمركز حولها الأحداث. فخلال قراءة المقاطع التي تتحدّث عن الصراع العربيّ الإسرائيليّ في منهج التّاريخ المصري المكتوب بقلمٍ عسكريّ، يتم تجنّب ذكر المقاومة الشّعبيّة ويُسلّط الضوء على القوّة العسكريّة. كما يُغيّب ذكر الاستعمار وانتهاكاته، ويغدو مجرّد خلاف بين قوّتين متناحرتين، لينتهي كلّ ذلك بمبادرة قائدٍ نحو سلام، على الطّالب اليوم تعديد مزاياه لينجح في مادّة التاريخ. وبطريقة لربّما مشابهة أو مختلفة، ستُغيّب فلسطين في مناهج دولٍ أخرى لخدمةِ سُلطةٍ أخرى تسعى لفرصةٍ اقتصاديّة جديدة.

اقرؤوا المزيد: "يتامى أوسلو.. غلطة وندمان عليها".

لتأريخ القضيّة الفلسطينيّة بطريقةٍ عادلة علينا مركزة الشعوب، إرادتها وحقوقها ومقاومتها للاستعمار، أي أن تكون الشعوبُ مركزاً للحكاية التي تُروى. فالشعب الذي لا يزال حتى يومنا هذا يناضلُ للتّحرّر من الاستعمار لا يمكن تغييبه عن الحكاية. وإن اعتُبرت قضيّة فلسطين ثابتةً في السياسة المصريّة أو غيرها، فعلى الفلسطينيّ أن يكون ثابتاً كذلك، حتى لا تغدو قضيّته وتاريخه مجرّد أداةٍ لشرعنةِ توجهٍ سياسيّ أو فرصةً مدعاة لازدهارٍ اقتصاديّ.

  • يُنشر هذا المقال ضمن برنامج زمالة الكاتبات والصحافيات الذي أطلقه "متراس" في يناير/ كانون الثاني، واستمر حتى نهاية مارس/آذار 2021.


22 نوفمبر 2023
عن الصحافة في زمن الحرب

بعد الضربة القاسية التي تلقاها الاحتلال في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ومنذ انطلاق معركة طوفان الأقصى، تصاعدت الاعتداءات والاعتقالات…